الحضارة الإنسانية وقادتها العظام (3).. مراحل خلق الكون
السؤال الذي شغل الإنسان منذ الأزل، وهو يتأمل الكون من حوله، كيف بدأ خلق الكون؟ وما المراحل التي مر بها؟ وكيف كانت الحياة قبل سيدنا آدم عليه السلام؟ وهاهم أهل اليمن، كما ورد في صحيح البخاري، يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسألوه بين ما سألوه، عن خلق الله للخلق والكون. ولم يغب الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرحه لأصحابه بالتفصيل وبالترتيب، فقد روى البخاري عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فيهم مقاما، فأخبرهم عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظه منهم من حفظه، ونسيه من نسيه. ولا تزال هذه الأسئلة تشغل الإنسان حتى يومنا هذا، وستظل تشغله حتى قيام الساعة.
إن الله خلق الخلق في أوقات متفاوتة، وخلق كل مخلوق في مراحل وأطوار متعددة لتتجلى قدرته، وتظهر دلائل تصرفه وتدبيره لخلقه، وقد ربط الله بين الخلق وبين الحكمة والعلة من وراء الخلق، وهي تحقيق العبودية له دون ما سواه
نتابع عرض أبرز القضايا التي سلط الدكتور علي الصلابي عليها الضوء في الجزء الأول من موسوعة الحضارة الإنسانية وقادتها العظام، ونتناول في هذا المقال قضية بدايات خلق الكون ومراحله وكيف كانت الحياة قبل سيدنا آدم عليه السلام.
بداية الخلق
أشار القرآن الكريم في غير موضع إلى بدء الخلق، كقوله تعالى "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير" سورة العنكبوت، آية 20. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في شرحه لوفد اليمن قوله "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض".
وقد دلت الآية الكريمة السابقة من سورة العنكبوت، كيف أن الله سبحانه وتعالى ذكر لعباده أن آيات بدء الخلق موجودة في الأرض، ووجههم إلى أن يبحثوا فيها ليتعرفوا على هذه الآيات، ويفهموا منها كيف نشأت الحياة وكيف انتشرت وكيف ارتقت.
ويعرض الصلابي في هذا السياق 7 مسائل على النحو التالي:
- أن بداية الخلق ليست غامضة ولا هلامية كما يصورها الفكر الغربي المادي الحديث، الذي دخل في متاهات النظريات الملحدة التي لا تعترف بالدين ولا تؤمن بالله.
- إثبات صفات الكمال لله تعالى، وأنه المتفرد بها وحده دون ما سواه، فهو القادر على كل شيء، وإليه يرجع الأمر كله، وهو الغني عن كل شيء.
- أن الله عرف نفسه لخلقه في آية الكرسي، التي تعد أفضل آية في القرآن، فكل ما فيها متعلق بالذات الإلهية العلية، وناطق بربوبيته تعالى، وألوهيته وأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.
- أن الله غني عن خلقه، فلم يخلقهم ليأنس بهم من وحشة، ولا ليستكثر بهم من قلة، ولا ليقوى بهم من ضعف.
- أن الله خلق الخلق في أوقات متفاوتة، وخلق كل مخلوق في مراحل وأطوار متعددة لتتجلى قدرته، وتظهر دلائل تصرفه وتدبيره لخلقه. قال تعالى "قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا، ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها، وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم" سورة فصلت، آية 9-12.
- ثنائية الخلق دلالة على وحدانية الخالق، فالله خلق كل نوع وجنس من الخلق من زوجين، قال تعالى "ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون" سورة الذاريات، آية 49.
- أن الله عز وجل ربط بين الخلق وبين الحكمة والعلة من وراء الخلق، فلم يخلق. الخلق عبثا ولا لعبا، وإنما لحكمة غايتها تحقيق العبودية لله دون ما سواه.
إن قضية بدء خلق الكون لا يمكن أن تخضع للإدراك أو للمشاهدة المباشرة، ولا يستطيع أي عالم تجريبي أن يتعدى فيها مرحلة التنظير، لنقف أمام حقيقة واحدة، هي التسليم بما جاء في القرآن حول عملية الخلق ومراحلها، ونتأمل آياتها التي حدثنا عنها لنزداد إيمانا بالله وإجلالا له سبحانه
مراحل الخلق
أورد الصلابي في المبحث الثاني من الفصل الثاني 15 مرحلة من مراحل الخلق مرتبة حسب الأسبق، وهي على النحو التالي:
خلق العرش والكرسي
فالعرش أعظم المخلوقات حجما وكيفية وأعلاها مكانة، وهو سقف الكون، ولا يدانيه في عظمته شيء من خلق الله. وهو جسم خلقه الله تعالى وأمر ملائكته بحمله وتعبدهم بتعظيمه والطواف به. قال تعالى "الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء علما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم" سورة غافر، آية 7. وفي العرش كرسي الرحمن الذي وسع حجمه السماوات والأرض، وقد جاء في آية الكرسي في سورة البقرة قوله تعالى "وسع كرسيه السماوات والأرض"، وجاء عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إن السماوات بالنسبة للكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، وأن حجم الكرسي بالنسبة للعرش حجم الحلقة بالنسبة للفلاة.
خلق الماء
ذكر بعض أهل العلم أن الماء أول المخلوقات، وبعضهم قال إنه خلق قبل العرش، محتجين بقوله تعالى "وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء" سورة هود، آية 7. وقد أكدت الآية أن العرش والماء خلقا قبل خلق السماوات والأرض.
وقد جعل الله الماء أساس المخلوقات والحياة، قال تعالى "وجعلنا من الماء كل شيء حي" سورة الأنبياء، آية 7. والماء ينزله الله من السماء بقدر وتدبير وحكمة، ولا يعلم موعد نزوله إلا الله سبحانه. كما أن المطر هو مصدر جميع مياه الأرض، ويسير في دورة متكاملة ثابتة، لا سبيل إلى زيادة الماء فيها قطرة واحدة، فالماء الذي يتم استهلاكه، ينزل إلى الأرض أو يتبخر في السماء ثم يعود ليتنزل مرة أخرى.
خلق القلم
القلم الذي أمره الله سبحانه وتعالى في بدء الخليقة ليكتب مقادير الأشياء، وما هو كائن من مخلوقات وأحداث وحياة وموت إلى يوم القيامة، وذلك بمقتضى علم الله بخلقه، ومقتضى كماله وجلاله. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة. ومن مات على غير هذا فليس مني".
خلق اللوح المحفوظ
وهو أحد المخلوقات العظيمة التي خلقها الله تعالى في بداية الخلق، وقد اقترن ذكره بالقلم، وسماه الله محفوظا لأنه لا يتطرق إليه العبث ولا تصل إليه الشياطين، فهو محفوظ من كل تغيير وتبديل. قال تعالى "ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون" سورة الأنعام، آية 38. واللوح المحفوظ محل كتابة القدر، وفيه حفظ الله القرآن منذ الأزل، قال تعالى "بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ" سورة البروج، 21-22.
خلق الزمان
فالزمان من مخلوقات العظيمة التي قل من يتأمله، وهو الوقت الذي نتحرك فيه ونعيش أيامه ولياليه، ونحسب به الأعمال والآجال. قال تعالى "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا" سورة الفرقان، آية 62. وقد ورد ذكر ألفاظ أجزاء الزمان في مواضع كثيرة في القرآن، كالساعة واليوم والشهر والسنة.
قال تعالى "وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون" سورة الأنبياء، آية ٣٣. فالليل والنهار آيتان فيهما الكثير من العبر والدلالات على ربوبية الله وحكمته، فجعل الليل لباسا وسكنا وجعل النهار معاشا
خلق الأرض
خلق الله تعالى الأرض قبل السماوات، وقد سبق ذكر الآيات التي تشير إلى ذلك من سورة فصلت، التي بينت أن خلق الأرض ووضع البركة فيها وتقدير الأقوات كان في 4 أيام، قبل خلق السماء. وأن خلق الأرض كان في يومين، وأنها كروية ذات شكل بيضاوي، وليس ممتدة تنتهي بحافة من الحواف كما كان يعتقد الأقدمون. قال تعالى "يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل" سورة الزمر، آية 5. وتشير الآية كذلك إلى دوران الأرض.
خلق الجبال
وقد وردت الجبال في أكثر من 40 موضعا في القرآن، تشير إلى خلقها بعد الأرض، وإلى صفاتها ودورها كرواسي شامخات تثبت الأرض. قال تعالى "والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها" سورة النازعات، 30-32.
خلق السماوات
وقد أشارت الآيات السابقة من سورة فصلت إلى أن خلق السماوات جاء تاليا لخلق الأرض، وأنه تم في يومين، وأن الله جعلها 7 سماوات. وقد نفى الله تعالى أن يكون لأحد معه نصيب في شهود هذه البداية العظيمة من الخلق، قال تعالى "ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا" سورة الكهف، آية 51.
وكانت السماوات والأرض ملتصقتين ثم فتق الله الأرض عنها. والسماء سقف الأرض، وقد رفعها الله بغير عمد، وأنه يستحيل سقوطها على الأرض إلا بإذن الله.
خلق الشمس والقمر
وقد جاء خلقهما تاليا لخلق الأرض والسماء، قال تعالى "ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا. وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا" سورة نوح، 15-16.
خلق الليل والنهار
قال تعالى "وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون" سورة الأنبياء، آية 33. فالليل والنهار آيتان فيهما الكثير من العبر والدلالات على ربوبية الله وحكمته، فجعل الليل لباسا وسكنا وجعل النهار معاشا.
خلق النجوم
وهي من مخلوقات الله العظيمة وآياته الباهرة، التي أقسم الله بمواقعها وتحدث عن حكمة خلقها كزينة للسماء وهداية للسائرين ورجوم للشياطين.
خلق الله الشجر والنبات بعد أن خلق الأرض وبسطها، قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والريحان، فجعل لعباده في الأرض من المتع وموارد العيش ما يقيم حياتهم وحياة أنعامهم
خلق الرياح
إن خلق الهواء جزء من خلق الكون، فهو محيط بالأرض، وهو عنصر أساسي من عناصر الحياة، به يتنفس الإنسان والحيوان وذوات الأرواح من الطيور والأسماك والحشرات. والرياح هواء متحرك يصرفه الله كيف يشاء بالحياة والرحمة أو بالهلاك والدمار.
خلق السحاب والرعد والبرق والصواعق
وقد خلق السحاب والرعد والبرق والصواعق وهي من مخلوقات الله الخاضعة لقوانينه وقدرته ومشيئته. وقد أوضحت آيات القرآن أنواع السحاب، فمنها البسيطة التي تقي حر الشمس، ومنها الركامية التي تسوق الماء والبرد، ومنها يتولد البرق والرعد.
خلق الشجر والنبات
خلق الله الشجر والنبات بعد أن خلق الأرض وبسطها، قوتا ومتاعا للأنام من العشب والشجر والحب والتمر والعصف والريحان، فجعل لعباده في الأرض من المتع وموارد العيش ما يقيم حياتهم وحياة أنعامهم. وقد فصلت سورة عبس مراحل خروج النبات من الأرض وبعض أنواعه. (انظر الآيات 24-32).
خلق الظلال
فالظل نعمة تقي الإنسان حر الشمس، ووسيلة لقياس الوقت في النهار، يقول تعالى "والله جعل لكم مما خلق ظلالا" سورة النحل، آية 81. وإن بناء الكون على هذا النسق، وتنسيق المجموعة الشمسية على هذا النحو هو الذي جعل الظل متحركا، ولو اختلف هذا النسق قليلا لانعكس ذلك على الظل، ولو كانت الأرض ثابتة لسكن الظل فوقها لا يمتد ولا ينقبض.
إن قضية خلق الكون لا يمكن أن تخضع للإدراك أو للمشاهدة المباشرة من الجن والإنس، ولا يستطيع أي عالم تجريبي أن يتعدى فيها مرحلة التنظير، لنقف أمام حقيقة واحدة، هي التسليم بما جاء في القرآن حول عملية الخلق ومراحلها، ونتأمل آياتها التي حدثنا عنها لنزداد إيمانا بالله وإجلالا له سبحانه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق