الأحد، 23 أبريل 2023

السودان من سقوط النظام إلى سقوط الدولة

السودان من سقوط النظام إلى سقوط الدولة

في أبريل/نيسان 2019، شهد السودان انقلابًا عسكريًا أطاح بنظام الرئيس السابق عمر البشير، وفي الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2021 قام رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو حميدتي بانقلاب آخر تم فيه حل حكومة عبد الله حمدوك وتعليق العمل بالوثيقة الدستورية وفرض حالة الطوارئ في البلاد وتجميد عمل لجنة إزالة تمكين نظام الإنقاذ.

ما كان لانقلابي 2019 و2021، أن يكتملان دون دعم إقليمي ودولي، من العديد من الأطراف التي تدخلت بفاعلية سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا وعسكريًا واستخباراتيًا في الشأن السوداني، وتحول السودان خلال السنوات الممتدة من 2019 إلى 2023 إلى ساحة للتنافس الإقليمي والدولي، وأصبح الحضور والتأثير الروسي الفاعل عبر شركة فاغنر والميلشيات التي تقوم على تدريبها وتسليحها، بعد توفير التمويل اللازم لذلك من أطراف إقليمية فاعلة، أحد أهم محددات السياسة الأمريكية تجاه السودان، ولذلك تعددت زيارات ومبادرات المسؤولين الأمريكيين لإدارة هذا الملف.

حتى وصلت الأمور في البلاد إلى التوقيع على اتفاق “إطاري” بين العسكريين وقوى سياسية متعددة، في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2022، ينص على تدشين مرحلة انتقال سياسي يقودها مدنيون لمدة عامين وتنتهي بإجراء انتخابات، واشتمل نص الاتفاق على خمسة بنود رئيسة هي: المبادئ العامة، وقضايا ومهام الانتقال، وهياكل السلطة الانتقالية، والأجهزة النظامية، وقضايا الاتفاق النهائي، مع تحديد الدور الرسمي للجيش، ووضعه في إطار مجلس للأمن والدفاع برئاسة رئيس الوزراء، لكن الاتفاق ترك عددًا من القضايا المهمة لمزيد من المحادثات منها العدالة الانتقالية وإصلاح قطاع الأمن.

إلا أن هذا التوقيع الذي جاء برعاية أطراف إقليمية ودولية، لم يمر عليه سوى أربعة أشهر فقط، حتى جاءت المواجهة العسكرية المباشرة بين الطرفين العسكريين في الاتفاق هذه المرة وليس بين المدنيين والعسكريين، مواجهة بين قوات الجيش السوداني بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. مواجهة تم فيها استخدام كل أنواع الأسلحة في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023، وفي الشهر نفسه الذي سقط فيه البشير 2019.

شتان الفارق بين سقوط “النظام” وسقوط “الدولة”

 

لكن شتان الفارق بين سقوط “النظام” في أبريل 2019، وبدايات سقوط “الدولة” في أبريل 2023، فالدولة في أحد تعريفاتها هي “كيان سياسي قانوني يقوم على خمسة أركان أساسية، هي الأرض، الشعب، الحكومة (النظام)، السيادة، والاعتراف”، وبالتالي النظام هو أحد أركان الدولة وليس هو الدولة، ويمكن أن نشهد تغييرًا سلميًا للنظام عبر آليات الانتقال السلمي للسلطة، أو انتقالًا عسكريًا عبر الغزو والاحتلال الأجنبي أو الانقلابات العسكرية أو الثورات الشعبية، ومع سقوط النظم تبقى الدول بأرضها وشعبها وأحيانًا سيادتها، كما يبقى الاعتراف بها قائمًا.

وقد شهد السودان عبر تاريخه، وخاصة منذ الاستقلال عام 1956، العديد من حالات سقوط النظم، وظلت الدولة قائمة، حتى كان عام 2011، شهدنا سقوطًا للدولة، مع فرض قرار تقسيم السودان إلى دولتين شمالية وجنوبية، والاعتراف باستقلال دولة جنوب السودان، في التاسع من يوليو/تموز 2011، حتى جاءت مواجهات عسكر السودان في أبريل 2023، لتعيد فتح هذا الملف وتثير السؤال الكبير والمهم: هل تكون هذه المواجهات بداية جديدة لسقوط جديد للدولة في السودان، ومقدمة لمزيد من التفتيت والتقسيم وظهور دويلات جديدة على حساب الجسد السوداني الواحد؟

 السيناريوهات المستقبلية للأزمة السودانية

قبل الإجابة عن هذا السؤال، يمكن الوقوف على عدد من السيناريوهات والمسارات المحتملة التي يفرزها تقدير الموقف الحالي، وذلك على النحو التالي:

السيناريو الأول: أن تقوم القوات المسلحة بقيادة البرهان، بحسم المواجهة مدعومًا بالعديد من الأطراف الإقليمية والدولية، والحاضنة الشعبية للجيش، وينجح في التخلص من حميدتي، والانفراد بالسلطة، وتأجيل، بل تجميد عملية الانتقال السياسي، والتسوية مع القوى المدنية، وهو ما يعني استقرار نسبي هش، على خلفية العديد من الأزمات التي تعاني من البلاد سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.

السيناريو الثاني: أن تقوم قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي بحسم المواجهة، أو على الأقل السيطرة على عدد من المناطق الاستراتيجية والمقرات الحيوية، وتفرض معادلة جديدة على الأرض من شأنها تقاسم السلطة بين المؤسستين، وتجاوز بنود الاتفاق السياسي الخاص بدمج قوات الدعم السريع في الجيش، وهو ما يعني استقرارًا نسبيًا لكنه سيبقى هشًا، لأن كل طرف سيبقى متربصًا بالآخر في انتظار فرصة للانقضاض على رأس السلطة.

السيناريو الثالث: حدوث تسوية سياسية مؤقتة، برعاية عدد من الأطراف الإقليمية والدولية، واستجابة لمناشدات ومبادرات هذه الأطراف، وخاصة أن بعضها يمارس أدوارًا مباشرة في المشهد السوداني، ويمتلك الكثير من أوراق الضغط والتأثير على الأطراف الداخلية سواء المدنية أو العسكرية، ويستطيع تحريكها وتوجيهها، وستكون نتيجة هذا السيناريو مثل سابقيه، استقرارًا هشًا، لأن هناك رأسين يهيمنان على مؤسستين، ويمتلكان الكثير من أدوات القوة الصلبة المسلحة والعسكرية والقدرات الاقتصادية والدعم الإقليمي والدولي، وسيبقى لدى كل منهما الطموح انتظارًا لفرصة التمدد وفرض السيطرة.

السيناريو الرابع: استمرار التوتر والصراع وعدم القدرة على حسم الصراعات، وفشل كل الأطراف الداخلية في إدارة علاقاتها في ظل تعارض أجنداتها، وارتباطها بأجندات متصارعة لأطراف إقليمية ودولية، والنتيجة الفشل المستمر في تحقيق انتقال سياسي سلس، انتظارًا لحدوث انقلاب عسكري جديد، بأطراف جديدة، وتوترات في الأقاليم السودانية، مع انهيار آفاق أية تسوية داخلية، مع استمرار معاناة المواطنين في الولايات والأقاليم كافة، وهو ما يقود إلى ما يعرف بـ”الدولة الفاشلة”، وهي مرحلة من مراحل سقوط الدولة، تكتمل بتقسيم الدولة وتفكيكها إلى دويلات عدة، أكثر فشلًا وسقوطًا وانهيارًا.

 خطر الانهيار والتفكيك قائم وهذه هي المبررات

وبناء على استعراض هذه السيناريوهات، وإذا كان مطلوبًا في إعداد تقديرات الموقف ترجيح أحد السيناريوهات، فإن السيناريو الأرجح من وجهة نظري الشخصية، هو السيناريو الرابع والأخير، في ظل توافر المؤشرات كلها التي تدفع باتجاه انهيار الدولة، وسقوطها وتفككها، مع تكالب العديد من القوى على أرضها وثرواتها، وفي ظل الانقسامات الاجتماعية التي حاولت القوى السياسية ترسيخها بعد انقلاب 2019 وانقلاب 2021، وفي ظل ترسخ الانقسامات بين القوى السياسية الإسلامية والليبرالية واليسارية، وعدم قدرتها على بناء تيار مدنى قوي وقادر على معادلة تمدد القوى العسكرية بأجنحتها المتصارعة.

كما أن هناك عاملًا أخطر، وهو امتلاك عدد من الميلشيات المسلحة، وعلى رأسها قوات الدعم السريع للعديد من أوراق الضغط والتأثير بعد تجهيزها وتأهيلها وتمويلها المكثف على مدار السنوات الخمس الماضية، وقبلها في عمليات ميدانية سواء داخل حدود السودان أو خارجها عبر دول الجوار، وامتلاكها لقدرات اقتصادية واسعة أصبحت أقرب للإمبراطورية الاقتصادية التي يتحكم فيها حميدتي، التي ستعزز من طموحاته وعدم قبوله بالخضوع أو الاستجابة لمسارات التسوية، وحتى إن قبل بها، فسيكون قبولًا مرحليًا ومؤقتًا احتواء لضغوط من هنا أو هناك، أو استجابة لمبادرات من حلفائه وداعميه، أو كسبًا لمزيد من الوقت حتى يستطيع القفز على السلطة ويحكم السودان كله، وإذا فشل في تحقيق هذا الهدف الكبير، يقوم بالانفراد بحكم دارفور والعمل على فصلها في كيان فاشل جديد يُضاف للكيان الفاشل الذي انفصل عام 2011.

وللأسف الشديد تشارك معظم الأطراف الإقليمية والدولية في الدفع نحو هذا التصور في ظل وجود نظم سياسية غير مدركة لطبيعة الأخطار والتحديات التي يمكن أن تنال من أمنها القومي، إذا دخل السودان مستنقع الحرب الأهلية والتفكيك والتقسيم، وليست تجربة ما حدث في العراق بعد 2003 منهم ببعيد، وليس ما حدث في سوريا وليبيا بعد 2011 منهم ببعيد، وليس ما حدث في اليمن بعد 2015 منهم ببعيد.

وإذا كان هناك من رهان على الحيلولة دون حدوث هذا السيناريو، فإنه يبقى مرتبطًا بوجود نخبة سياسية واعية وحاضنة شعبية مؤمنة بوحدة الوطن وضرورة العمل على أمنه واستقراره، وتشكيل بديل وطني قادر على الخروج بالبلاد من هذه الأزمة المتشابكة والمعقدة، وأعتقد أن السودان غني بأبنائه القادرين على تحقيق هذه المعادلة الصعبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق