الأزمة السودانية ودور الجامعة العربية المفقود
“هُزِّي إليكِ بجذع اجتماعٍ يُسَاقِطْ حولَكِ الشجبَ والتنديد”! بهذا المعنى أو قريب منه يستقبل العقل العربي خبر الاجتماع الطارئ لجامعة الدول العربية على مستوى “الأعضاء الدائمين!” وما تلاه من بيانات و”إعرابات!” لا تزيد في سخونتها درجة واحدة على مستوى بيانات الخارجية الأمريكية وأمثالها من الكيانات السياسية التي تقوم فيها التصريحات “اللولبية” بالتغطية على المواقف والأدوار المدانة لتلك الكيانات، وما يُجدي وما يُفيد أنْ يُبْدي الأمين العام ويُعيد معبرًا عن عميق قلقه وانزعاجه إزاء العمليات القتالية الدائرة في السودان، وعن صدمته وشجبه لِلّجوء إلى السلاح بين الإخوة في الشهر الكريم؟
إلى الخراب ثم التقسيم يسير السودان
إلى تَوَسّع النزاع المسلح وانزلاق البلاد في ظلِّه إلى حرب أهلية ثالثةٍ يسير السودان بخطًى سريعة، يغذيها دعمٌ إقليميٌّ للأطراف المتنازعة؛ من أجل الوصول بالبلاد إلى “محطة” حتمية، ليست سوى التقسيم على أسس عرقية قَبَلِيّة؛ تفضي بالسودان إلى حالة من الاحتراب الدائم لعقود طويلة، هذا ما تحلم به القوى الداعمة لهذه الحرب؛ مستهدفةً مزيدًا من التمزيق للجسد العربيّ والإسلاميّ، ومستشرفةً الإبقاء على سلة الغذاء المأمولة بعيدا عن أيدي العرب والمسلمين؛ لِتَخْلُصَ لكل ناهب للخيرات مبتزّ للثروات، ناهيك عمّا يمثله السودان بالنسبة لمصر -قلب العروبة والإسلام- ولأمنها المائيّ.
وعلى هذا الرعب المتوقع تقف الأحداث الدائرة -على المستويين المحليّ والإقليميّ- شاهدةً ومنذرة ومحذِّرة، فها هو السودان قد عَبَرَ إلى التقسيم الأول (شمال وجنوب) فوق جسر الحرب الأهلية الأولى، ثم وقف إلى حين في حلق وحش التقسيم المفترس كالغصّة، التي يحاول اليوم “حميدتي!” وحلفاؤه الإقليميون أن يسيغوها؛ ليس لانفصال دارفور وانقسام السودان عرضًا بعد انقسامه طولا وحسب، وإنّما لتمزيق ما تبقى من شمله الذي أضعفته سني الحصار وما تلاه من أخطار، سببتها تجربة بائسة تُنْسب كذبًا للإسلام، فإذا ما رَفَعَ الغارق في الشأن السودانيّ رأسه ليلقي نظرة على المحيط العربيّ من حوله؛ فسيرى اليمن وليبيا ثم العراق وسوريا تتصدع أبنيتها تحت مطارق الحروب الأهلية لتبدو الخطوط المتوقعة للتقسيم في خلفية الصورة البائسة التي يتعالى فيها الدخان ليختلط بالغيوم الكثيفة.
وإلى نهايتها تمضي الجامعة العربية
هل هذا المصير الحتميّ قادم ووشيك لمجرد أنّ نشأة الجامعة العربية جاءت -في سياق إحلال النزعة القومية محلّ النزعة الإسلامية- من أجل تقويض فكرة الجامعة الإسلامية؟ لا أعتقد أنّ هذا سببًا كافيًا؛ فقد كان بالإمكان الانطلاق من هذه القومية -إن صحّتْ وصحَّ معها العزمُ- إلى إجراءات كثيرة تكفي لحماية ما تَبَقَّى من رصيد الأمة، إلى وقت انبعاث النّفَس الإسلاميّ الصافي، الذي يُحدث التجديد ويبعث الأمةَ من جديد، لكنّ الواقع أن جامعة الدول العربية منذ نشأتها قبل ثمانية وسبعين عامًا لم تقدم شيئًا قَطُّ، ولم تقف موقفا واحدًا يدفع عنها وصم الإدانة، فها هي جميع الملفات: القدس وقضية فلسطين، ونكبات لبنان، ومآسي سوريا والعراق، وجحيم اليمن وليبيا، جميعها تمضي حيث يُراد لها دون أدنى أثر لإرادة عربية موحدة تعرقل مسار الانهيار، ثم يدعون لقمة في الرياض قريبة لإعادة نظام الأسد!
وتلك التي يسمونها اتفاقية الدفاع المشترك، التي ولدت من رحم الجامعة بعد نشأتها بخمس سنوات على أثر إعلان قيام دولة إسرائيل، ماذا قدمت؟ وعن أيّ أرض أو عرض دافعَتْ، وأين تدخلها لحسم أيّ نزاع بين أعضاء الجامعة؟ وقد جاء في المادة السادسة منها: “إذا وقع اعتداء من دولة على دولة من أعضاء الجامعة أو خشي وقوعه فللدولة المعتَدَى عليها أو المهدَّدَة بالاعتداء أن تطلب دعوة مجلس الجامعة للانعقاد فورا، ويقرر المجلس التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء”، وعلى الرغم من أنّ هذا النص مائع وقاصر وليس فيه ما يُلزم الدول الأعضاء بتقديم المساعدة مباشرةً للضحية التي يقع عليها العدوان؛ فإنّه أيضا -وبحسب كتاب “الأحلاف والتكتلات في السياسة العالمية”- لا يَحُولُ دونه.
ما الذي تَبَقَّى لنا إِذَنْ؟
وعلى الرغم من إقفار الساحة السياسية التقليدية من كل حيلة ومن كل أمل في إيجاد حيلة؛ فإنّ الأمّة لا تزال خصبة بالخير غنيّة بمقومات البقاء وعوامل النهوض، فالشعوب على فقرها ويأسها وانهدام عزمها قادرة على الكثير مما لا يخطر لنا ببال، لا ينقصها سوى التوجيه والتأثير مع القدوة الحسنة؛ فهل تستطيع الشعوب أن تضغط بأدوات مبتكرة لتوقف هذا المدّ المرعب لفيروس الاحتراب وسرطان الاضطراب؟! وهل يستطيع كبار الأمّة من مفكريها وعلمائها وكتابها ومثقفيها ودعاتها ومصلحيها من كافّة الاتجاهات أن يوحدوا جهودهم صوب هدف محدد هو وقف هذا النزيف الدائم المفزع وتوجيه طاقات الأمة لغير ما يريده عدوها ويتواطأ عليه الكثيرون من قادتها؟
إنّه بإمكان أهل الحلّ والعقد وأصحاب الرأي والشورى وأولي العلم والفكر أن يستثمروا وجود بعض الكيانات العربية والإسلامية التي تحظى ببعض الاستقلال وتكابد من أجل الحصول على المزيد، وبعض الكيانات الأخرى المخلصة التي تحسن التحرك تحت السقف المفروض عليها بغير إرادة منها ولا اختيار، وبعض المؤسسات التي لا تزال تحتفظ ببعض دماء الحرية والكرامة؛ لإيجاد حالة عامّة في الأمة تملك التوجيه للشعوب والضغط على الأنظمة؛ لفتح آفاق التحرر والخلاص من كوابيس الارتهان بمصائر تُبْرِمُها قوى إقليمية ودولية لا تكترث بدماء الشعوب.
على من يقع الواجب الشرعيّ؟
ويبقى الواجب الشرعيّ الكبير لا يعطله جَلَدُ الفاجر وعجز الثقة، ولا يؤخره تأخّر العلماء والمصلحين عن دورهم ولا تقدّم الأدعياء والمغرضين إلى ما ليس لهم، وهو المنصوص عليه في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، لا ريب أنّ الفرض الكفائيّ قائم، فإن نَهَدَ إليه من يكفي ظفر بالأجر ورفع عن الخلق الوزر، وإن لم ينهض به أحد حلّت بجميع القادرين الأوزار، ثم الدّمار والتَّبار، والحكم لله الواحد القهار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق