اللافت للنظر جداً فهو أن الرئيس الأمريكي حين يجدد هذا العام الحديث عن "الإبادة الجماعية" للأرمن ومطالبته لأنقرة بالاعتراف بها؛ فهو يضرب عن جرائم الروس في القرم صفحاً في وقت يخوض معها حرباً غير مباشرة عبر أوكرانيا
مع كل دعاية غربية لما يطلق عليه "مذابح الأرمن" التي تحل ذكراها في الرابع والعشرين من إبريل في كل عام، ومع كل مطالبة لتركيا بالاعتراف بها ومن ثم تحملها للمسؤولية القانونية عن تلك الأحداث التي وقعت في العام 1915م وما بعده، تثور عدة تساؤلات في المقابل حولها، كثير منها يتعلق بملابسات وظروف تلك الأحداث، وموجات الدعاية المتواصلة لها المتراوحة صعوداً وهبوطاً تبعاً للمتغيرات الدولية وحجم الضغوط المراد ممارستها على الدولة التركية وفقاً لعدد من العوامل من بينها شكل النظام الحاكم في أنقرة نفسه وطبيعة علاقته مع الغرب.
لا غرو في مناقشتها الآن، لكن يبقى التساؤل الأبرز الذي يمكن الإفادة منه والترتيب عليه هو عن هشاشة الوضع الإعلامي الإسلامي وعجزه عن مواجهة هذا الزيف المستمر في الإعلام العالمي، وفقدان القدرة على وضع استراتيجية إعلامية لها القدرة على صد الهجمات الدعائية في مثل هذه الأمور وغيرها.
وللتمثيل: دعونا ننحي مؤقتاً التحقيق في تلك الأحداث التي مر عليها أكثر من قرن، ونذر تحديد من الظالم والمظلوم بين الأتراك والأرمن، فلكل وجهات نظره وحججه، لكن الأهم عندنا في مناقشة ذلك: هل كانت هذه الأحداث فريدة في زمنها أو حتى هذه اللحظة التي نعيشها الآن حتى لا يسلط الضوء على شيء سواها؟! أو أن هذا التقصد يشي بأننا لا نحسن وضع مظالمنا في دائرة اهتمام الرأي العام، ولا نجيد إلجام أعدائنا الحجة وتحجيم تعاليهم في النطاق الأخلاقي.
قضية كتلك أجرم فيها ستالين وقبله القياصرة حيث أبيد الملايين من تتر القرم المسلمين إبان الحكم القيصري، ثم مات ملايين آخرين على يد ستالين إذ أجبرهم على الهجرة في قطارات الماشية إلى صحراء سيبيريا القاسية البرودة في الأربعينات من القرن الماضي |
في الحرب العالمية الأولى، مات نحو عشرة ملايين مدني، لا يذكر منهم سوى "ضحايا الأرمن" وحدهم، فيما يغض العالم الغربي الطرف عن بقية القتلى، وفي الحرب العالمية الثانية قُتل ما بين 50-52 مليون مدني لا أحد يتحدث عن كيفية قتل هذا العدد الهائل ضمن معارك حربية!
جرائم قنابل هيروشيما ونجازاكي التي حصدت أكثر من
140 ألف مدني ليس لهم أي تقاطع مع مناطق الصراع،
قتلتهم أمريكا، وجرائم فرنسا في الجزائر التي بلغت نحو
5.5 مليون جزائري مدني قتلتهم فرنسا حتى العام 1960
وفقاً لرئيس الجزائر عبد المجيد تبون، ثم ضحايا آخرين قضوا جراء تجارب فرنسا النووية في الجزائر بعد "الاستقلال" حتى العام 1966. وجرائم بلجيكا في الكونغو الديمقراطية التي قتلت فيها قوات الملك ليوبولد الثاني ما يربو عن عشرة ملايين نفس وقطعت أيدي ملايين آخرين خلال حقبة احتلالها لهذا البلد المنكوب منذ القرن الـ19 وحتى العام 1960م.. إلى آخر تلك الجرائم الأوروبية الشنيعة في شتى أرجاء العالم، والتي غاضت بمذابح لا علاقة لها بالمعارك الحربية بالمرة، ومعظمها إما تندرج تحت الاضطهاد الديني أو العنصري أو الاستعباد الاقتصادي.
أما اللافت للنظر جداً فهو أن الرئيس الأمريكي حين يجدد هذا العام الحديث عن "الإبادة الجماعية" للأرمن ومطالبته لأنقرة بالاعتراف بها؛ فهو يضرب عن جرائم الروس في القرم صفحاً في وقت يخوض معها حرباً غير مباشرة عبر أوكرانيا، ولا يريد أن يثير قضية كتلك أجرم فيها ستالين وقبله القياصرة حيث أبيد الملايين من تتر القرم المسلمين إبان الحكم القيصري، ثم مات ملايين آخرين على يد ستالين إذ أجبرهم على الهجرة في قطارات الماشية إلى صحراء سيبيريا القاسية البرودة في الأربعينات من القرن الماضي، في واحدة من أكبر جرائم الروس التي أفقدت القرم 95% من سكانها بحملات إبادة جماعية.
كان يمكن لواشنطن أن تتحدث عن مذابح التتر القرم وهي تواجه الروس في واشنطن كأحد أدوات صراعها معها وضغوطها، وكان يمكن للغرب أن يصنع من 18 مايو القادم (ذكرى المذبحة والتهجير) يوماً لتذكير العالم بجرائم الروس في القرم التي تشهد حرباً الآن، أو كان يمكنه أن يتحدث عن إبادة السوريين الجماعية التي اقترفها الروس وحلفاؤهم في سوريا بدلاً من أن يتقصد الأتراك وهم حلفاؤه في الناتو ولهم دور واضح في تكبيد الروس خسائر في حرب أوكرانيا عبر البيرقدار التركية، لكنه لم يفعل ولن يفعل لأنه حنقه على الأتراك (الحلفاء) أكبر من خصومته مع الروس (الأعداء). هذا معلوم ولا يهم كثيراً، غير أن المهم – كما تقدم – أن يباشر المسلمون هجوماً إعلامياً قوياً على المجرمين الحقيقيين مرتكبي معظم الإبادات الجماعية في العالم، أصحاب القفازات الحريرية التي تخفى أيدٍ ملطخة بدماء عشرات ملايين الأبرياء.
ربما يقف بايدن فوق مقبرة جماعية للهنود الحمر الذين أبادهم أجداده، وهو يتحسر على أرمن في أقصى الأرض، قضوا في أحداث لم تزل تثير جدلاً كبيراً بين المؤرخين حتى الآن؛ فالوثائق الرسمية العثمانية ولجان تقصي الحقائق الحربية الغربية تشير إلى قتل العصابات الأرمينية زهاء 540 ألف مسلم شرق تركيا بين سنوات 1914 و1921 أثناء خيانة سجلها التاريخ لجموع من الأرمن تحت ظل الدولة العثمانية قد ارتضوا أن ينخرطوا مع الجيش الروسي الغازي لممتلكات الدولة العثمانية وتشكيل ميليشيات لقتل المسلمين الآمنين في قراهم بشرق الدولة طمعاً في تحقيق حلم أرمينيا الكبرى، ما دفع حكومة الاتحاد والترقي المناهضة للعثمانية إذ ذاك إلى تهجير مئات الآلاف منهم.
وسواء تورط الجيش العثماني حينها في ارتكاب مذابح أم لم يفعل؛ فإن تلك الدولة التي احتضنت الأرمن أربعة قرون على الأقل قبلها، كانت في طور التفكك، والاضطراب الشامل بعد انقلاب الاتحاد والترقي على النظام العثماني واندلاع الحرب العالمية الأولى، واحتلال أجزاء كبيرة من أراضي تلك السلطنة وخضوع مناطقها لأحوال وقيادات مختلفة ومتباينة.
إن أولي الألباب في هذه الأمة مدعوون إلى العمل على وضع العالم الغربي دوماً تحت ضغط التذكير المستمر بجرائمه المعاصرة، الماضية والآنية، وإحياء تلك الأيام التي عانى فيها المسلمون ما عانوه على يد هذا "العالم المتحضر"، لكي تبقى جذوة المشاعر متقدة في النفوس، ويبقى المجرم ملتصقا دوماً بجرائمه لا ينفك عنها ولا تمحوها عنها خطيئة النسيان المتعمد أو غير المتعمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق