الجنجويدية العربية من تونس إلى دارفور
ما سبق جزءٌ من حصيلة حوار على الهاتف بين تاجر الإبل والحمير، والأقمشة فيما بعد، والمتهم بارتكاب مذابح تطهير عرقي وجرائم إبادة جماعية في إقليم دارفور، ووزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، بحسب تغريدة باللغة الإنجليزية على موقع تويتر.
يطلّ حميدتي تاجر الحمير في ملابس قائد التنوير، معلنًا أنه يحارب الإسلام الراديكالي المتطرّف في السودان، من أجل الدولة المدنية وضد التطرّف والفاشية، تمامًا مثل خليفة حفتر في ليبيا، وقيس سعيّد في تونس، على خطى السيسي وبشّار والحوثي.
مضمون الخطاب واحد: نحن نحرق أوطانًا ونخنق شعوبًا من أجل القضاء على الإرهاب والتطرّف، وهو خطابٌ تطرب له الأذن الأميركية والصهيونية. وهنا، لا يصبح مهمًا وضع أيّة فوارق ثقافية في الاعتبار، فيصير قيس سعيّد جنجويديًا أكثر من زعيم الجنجويد الذي كان مطلوبًا للجنائية الدولية في تسعينات القرن الماضي، ثم صار الطلب عليه كبيرًا ونحن في العام 2023، حيث يكفي للإفلات بجرائمك أن تعلن أنك تحارب التطرّف من أجل أمان العالم الذي يسمّى الأول.
لا فرق هنا بين هجمات خرّيج الحقوق، قيس سعيّد، على الأحزاب والنقابات والمؤسّسات القضائية، وهجمات قائد مليشيا الدعم السريع على سكان دارفور والمهاجرين وتنفيذ مجازر ضدهم ... الذي يحكم تونس منتخبًا، لا يختلف عن قاطع طريقٍ محترفٍ يتحكّم في السودان، فالأول يدغدغ مشاعر فرنسا والأوروبيين بأنه يخلّصهم من الإسلام المتطرّف، والثاني يثير شهية واشنطن بالحرب على التطرّف الراديكالي الإسلامي ... يداهم الأول منزل راشد الغنوشي ويعتقله ليلًا، ويخطف الثاني الجنود والضباط المصريين ويتّخذهم رهائن نهارًا، وكلاهما يجد من يستمع إليه ويحاوره ويتفاهم معه ويناشده.
ما يدور في السودان الآن هو تكرارٌ لعملية زراعة حفتر في ليبيا، والراعي معروفٌ للجميع، ويتحرّك بالطريقة ذاتها التي استخدمها في الأراضي الليبية، ولا يعبأ بحرق السودان كله، لذلك يبدو غريبًا ومدهشًا حديث الحرص على السودان وحقن دماء شعبه من أولئك الذين تولوا مهمّة تقطيع ليبيا وإراقة دماء شعبها بتحويلها ساحة حربٍ أهلية، فكيف لمن حارب من أجل زراعة الحفتر في ليبيا أن يرفع عينه أمام الحفتر ذاته في السودان؟
يتعامل النظام العربي والإقليمي مع الأوضاع الدامية في السودان من وضعية الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين، الدولة والمليشيا، قائد الجيش وزعيم المليشيا، ولا تعني هذه المقاربة، في المحصلة، سوى دعم قائد المليشيا، فما الذي يمنعه إذن من تسويق خطابه التنويري المضحك، ويبيع البضاعة ذاتها التي حقّقت أرباحًا للسابقين على هذا الطريق؟
كيف لا ينتعش وينتشي هذا الحميدتي المتسرّب من التعليم الابتدائي، وهو يرى نفسه القائد العسكري المرصّع بالرتب الرسمية الرفيعة، ويقال له "الفريق" وهو الذي لم يمرّ، ولو ربع ساعة على مدرسة أو كلية عسكرية، فكلّ خبرته في الحياة كانت الركض وراء الدوابّ (إبل وحمير) في الفيافي حتى التقطه الجنرال عمر البشير، إبّان ارتكابه جرائم حربٍ في دارفور، ليضع السلاح في أيديه، ويطلقه زعيمًا لميليشيا من الرعاة تنفذ له مذابح جماعية وفظائع إبادة وتطهير عرقي، ضد سكان إقليم دارفور، ثم يمنحه رتبة "اللواء"، وهي الرتبة التي من المفترض أنها تقتصر على ضباط الجيش ممن دخلوا الكلية العسكرية، كما أنّ عمره لم يكن يؤهله للوصول لها.
المتأمل في تفاصيل الوقع الحالي يشعر وكأن العالم العربي لم يعش مرحلة تسعينيات القرن الماضي كما ينبغي، فقرّر أن يعود إليها، أو قل يرتدّ إليها مجسّدًا حالة نكوص كاملة، إذ تُستعاد المعارك نفسها ويعاد إنتاج الكوارث ذاتها، من مصر إلى تونس، مرورًا بالسودان وليبيا، حيث تبدو الأوضاع أكثر طفولةً ونزقًا، سياسيًا وحضاريًا، مما كانت عليه قبل ثلاثة عقود، وأدّى إلى تفجّر ثورات الشعوب خروجًا من تلك الحالة البدائية المتخلّفة للدولة العربية التي تدار بمفهوم القبيلة أو المليشيا أو الطائفة أو الشركة الخاصة.
يعرّف علم النفس النكوص بأنه ارتدادٌ إلى مرحلة طفولية أو صبيانية في حياة الفرد، ومن عندي أضيف والنظام السياسي أيضًا، حيث يمثّل إحدى الآليات الدفاعية التي يلجأ إليها الفرد (أو النظام أو التنظيم المليشيوي) ليتجنّب ما يعانيه من صراع أو قلق جزئي أو كلي بالعودة إلى مرحلة أو نمط سابق في حياته. فإذا اصطدم الفرد بعائقٍ يعيق إشباع دافع لديه، ولم يستطع التغلّب عليه، فإنه يتعرّض للإحباط، وهنا قد يرجع إلى بعض الأنماط السلوكية القديمة التي كانت تشبع رغباته ودوافعه في مراحل نموه السابقة وتحقّق له الطمأنينة، على الرغم من أنها لا تكون ملائمة لمرحلة نموه الحالية، فالطفل الذي يشعر بانصراف الأهل عنه للعناية بأخيه الصغير يلجأ إلى النكوص من خلال طلب الحليب مثلاً من الزجاجة كما كان يفعل وهو صغير.
على ضوء التعريف السابق، تأمّل وجه قيس سعيّد تجد ملامح بن علي. وانظر في أداء زعيم الجنجويد سابقًا، تشعر وكأنك بصدد مأساة دارفور على يد عمر البشير، والطفل الهارب من التعليم ينمو ويتضخّم حتى يصير زعيم عصابةٍ برتبة فريق أول. وانظر إلى ما تسمّى القوى المدنية، تجدها منقسمة بين جنراليْن واستبدادين، تستبدّ بها الحيرة مثل طفلٍ لا يعرف أيّ القويين يختار، أو لأيّ الانقلابيْن ينحاز.
استدراك مهم: لا فرق بين حميدتي وعبدوائل الفتاح البرهان في العداء لثورة الشعب السوداني، لكن يبقى البرهان قائدًا لجيش الدولة النظامي، والثاني قائد مليشيا حتى، وإن كانا قد تحالفا يومًا لسرقة الثورة والسلطة، تحت أعين أصحاب الثورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق