المعارضة التركية دعوة للتغيير أو اشتياق للعبودية
لم يبق أمر المعارضة وتصرفاتهم في الداخل التركي فقط، بل انتشرت رائحتها في الخارج، فقد أرسل لي صديق عربي من الخليج رسالة حينما لم يصدق ما رآه، ويتساءل فيها مستنكرًا: هل المعارضة في تركيا حقًّا على هذا المستوى؟!
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ
وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
أقيم الأسبوع الماضي حفل دخول سفينة “تي سي جي أناضول” أول حاملة مسيرات حربية إلى الخدمة بتركيا، وهي أكبر سفينة حربية تركية كما أنها أول سفينة يتكون غالبية أسطولها من طائرات مسلحة دون طيار، وقد تم تسليمها إلى قيادة القوات البحرية بمشاركة الرئيس رجب طيب أردوغان. إنه يمثل حدثًا عاديًا من بين العديد من الافتتاحات الأخرى التي جرت في السنوات الأخيرة وتسارعت وتيرتها في الشهر الماضي، وقد بدأت بتسليم السيارة تُوغ “TOGG” إلى المشترين، وتعد (توغ) أول سيارة تركية محلية الصنع التي تم إخراجها من خط الإنتاج الخاص منذ مدة وجيزة ودخلت الإنتاج الضخم، وقد مثَّل ذلك ثورةً تركية لم تكن هناك قدرة على التفكير في تحقيقها منذ سبعين عامًا على الأقل. علاوة على ذلك تتميز هذه السيارة بتقنيات وأنظمة متطورة تعطيها الأولوية في المنافسة مع نظيراتها في العالم.
وكل يوم يفتتح رئيس الجمهورية مشروعًا مختلفًا في مناطق عدة في البلاد، سواء في مجال الصناعة أو في مجال الخدمات، ولم يكن أي من هذه المشروعات مجرد استثمارات بدأت مؤخرًا وتطورت بسرعة في الفترة التي سبقت الانتخابات لتكون دعاية انتخابية فقط، بل أن العديد منها نتيجة مناخ استثماري عمره عشرون عامًا تقريبًا.
وكل تلك الإنجازات يوضح شيئًا واحدًا: لقد تحررت تركيا من قيود كل المستحيلات والقيود والعجز والتبعية الشكلية أو الحقيقية التي تحد من قدراتها، وأصبحت حرة ومتطورة، فكل هذه الافتتاحات هي أوضح دليل على هذا.
سَبِيلُ العُلا عَالٍ عَلى مَن تَعَلَّلَا
وَمَنْ جَدَّ فِي سَعْيٍ لِأَمْرٍ تَمَكَّنَا
وبينما يقوم أردوغان بكل تلك الإنجازات والافتتاحات خرج كيليتشدار أوغلو في يوم الافتتاح على الشاشات، وفي يده “بصل جاف”، ليقول: “كل هذه الأشياء لم تكن صالحة للأكل، تركيا كانت بحاجة إلى بصل جاف، وإذا بقي أردوغان في السلطة، فإن البصل الذي يبلغ سعره اليوم 30 ليرة سيرتفع إلى 100 ليرة”.
وما ذلك بالطبع إلا ضرب من التنجيم والكهانة والترهيب من أمر غير واقعي، ورؤية سوداوية للمستقبل. إلى جانب أننا قد رأينا في الوقت نفسه كيف يتم تدمير أطنان من البصل من أجل إحداث أزمة وإيصال هذا المعنى للناس، وليست هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا. قبل بضع سنوات وقعت أحداث مماثلة قبيل الانتخابات من أجل الهدف ذاته، ولذلك فإنه من الواضح عدم وجود نقص حقيقي في البصل في تركيا، لكن هناك نقصًا في الضمير والإيمان والأخلاق. فقد أعطى الله هذا البلد ما يكفي من البصل والثوم والعدس الذي يغطي احتياجات الشعب، لكن التجار والسياسيين الجشعين الذين لا يشبعون يدهسون هذا الرزق الإلهي ويمنعون الناس من الاستفادة منه رغم وفرته.
وليس من قبيل المصادفة أن يختار هؤلاء المشعوذون الخضروات لمثل هذه الألاعيب السياسية ولا سيما البصل المجفف، إذ طالما كان للبصل قوة رمزية قوية عبر التاريخ، كما تظهر رمزية البصل أيضًا في القرآن الكريم، فقد ورد في قصة بني إسرائيل الذين استعبدهم فرعون تحت القهر والاضطهاد، ثم حررهم نبي الله موسى بعد مجادلات طويلة وشاقة.
وبينما تمثل الحرية هي أثمن فضيلة يمكن أن يعيشها الإنسان ويتمتع بها فتشعره بكرامته وإنسانيته دون سائر المخلوقات، فإن بني إسرائيل بدلًا من تقدير هذا والتعبير عن الشكر لم يتركوا شهواتهم ونزواتهم الدنيوية، فبدأوا سألون نبي الله موسى: ماذا سيفعلون في هذه الجبال من دون ماء ومن دون طعام؟ فتأتيهم معجزة أخرى بعدما رأوه من غرق فرعون ونجاتهم، فينزل عليهم من السماء المَنّ والسلوى، وبعد أن رزقهم الله حياة من الحرية ورزقًا هنيئًا إذ كان الخبز والمن والسلوى بين أيديهم والماء العذب من البحيرة، فإنهم بعد مدة أخذوا يتذمرون ويتساءلون: “هل سنظل نأكل هذه الأشياء دائمًا؟! أليس هناك أي شيء آخر؟ أين البصل؟ أين الثوم والعدس؟
وفي هذا الموقف في جو الحرية التي منحها الله لهم في ظل قيادة نبيّه موسى ليس من قبيل المصادفة أن يطلبوا البصل بدل ما في أيديهم من الأطعمة العالية الجودة التي تُعدُّ من أطعمة الطبقة العليا من الناس، فيأتي البصل تعبيرًا عن الحنين إلى الماضي، والحنين إلى الماضي غالبًا ما يطارد أولئك الذين اعتادوا على الراحة وعاشوها دون منغصات، والمقصود بالماضي هنا هو أوقات العبودية التي فقدوا فيها كرامتهم وهويتهم وصاروا شِيَعًا متفرقين واشتد بينهم البأس والخصومة، فعاشوا مضطهدين مقهورين تحت طغيان فرعون.
هل يجوز لأي شخص عاقل أن يشتاق إلى أي شيء من هذه الأوقات الغابرة؟ خاصة بالنسبة لشخص يعرف قيمة الحرية! لا يمكن تفسير هذا الشوق والحنين بالمنطق العقلي، لكن تفسير علم النفس لهذا الوضع يوضح أن مثل هؤلاء إنما سئموا دوام الراحة ويريدون التغيير، والتغيير الذي يريده ليس أكثر تقدمًا أو تغييرًا للأفضل. الحنين إلى الماضي هو حنين لوقت عاشوا فيه حياة العبودية والقهر والاضطهاد والدونية.
لكن أولئك الذين يرفعون البصل بأيديهم الآن يقدِّمون في الوقت نفسه الأسوأ على الأفضل كما فعلوا عبر التاريخ، وهذا تصرف يكمل رمزية البصل التاريخية، وهو تمامًا ما جاء في القرآن، قال الله عز وجل: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: من الآية 61].
وهذا المشهد التاريخي يوفر للجميع فرصة كبيرة للمقارنة بين الحكومة والمعارضة في تركيا، فبينما تعمل قيادة أردوغان على تحرير البلاد من التخلف والعبودية والتبعية التي كانوا يئنون من ويلاتها في الماضي، ونرى مظاهر ذلك التحرر وثماره أمامنا كل يوم في افتتاح المشروعات التي يقوم بها أردوغان، فإنه على النقيض تطرح المعارضة البصل في مقابل كل مشروعات التحرير والتنمية هذه، وهذا لا شك له رمزية خطيرة، فالبصل هو في الواقع تعبير عن حنين المعارضة إلى ماضيها في السلطة. يشتاقون إلى الأيام التي حكموا فيها الناس بأنفسهم، ولم يقدموا شيئًا من التنمية والتطور للشعب، بل على العكس كادوا يستعبدون الشعب، وهذه المرة ليس الشعب هو الذي يطالب بالبصل، ولكن حكومة الماضي ومعارضة اليوم هي التي تحاول استعباد الشعب، وستكون الانتخابات هي الأخرى مجالًا فسيحًا للتعبير عن هذه الرمزية، وستكشف عن فضيلة الشعب التركي الذي لا يقبل أن يُوَلِّي زمام أمره لنفوس هاجسها العبودية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق