السبت، 22 أبريل 2023

فتنة خَلق القرآن وتعذيب الإمام أحمد بن حنبل

 فتنة خَلق القرآن وتعذيب الإمام أحمد بن حنبل

يسري الخطيب 

كان المسلمون أمةً واحدةً، وعقيدتهم صحيحة وصافية من معين النبوة، حتى وقعت الفتنة الكبرى، وقُتل ذو النورين عثمان (رضي الله عنه) مظلومًا شهيدًا؛ فتفرقت الكلمة، وظهرت الشرور، وتمت وقعة الجمل، ثم صفين، وبدأت البدع في الظهور، وحدث أول انحراف في تاريخ العقيدة الإسلامية بظهور فرقة الخوارج التي كفّرت الصحابة خير الناس، ثم أخذت زاوية الانحراف في الانفراج؛ فظهرت فرقة الروافض، وكلما ظهرت فرقة مبتدعة ظهرت في المقابل لها، وعلى النقيض منها فرقة أخرى: الأولى تغالي، والأخرى تعادي،

فكما ظهرت الخوارج، ظهرت فرقة المرجئة التي أخرت العمل، وقالت: إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، فجعلت إيمان أفجر الخلق كإيمان أتقاهم،

وكما ظهرت الروافض ظهرت النواصب،

وكَما ظهرت فرقة القدرية، ظهرت فرقة الجبرية التي تنفي أي اختيار وإرادة للإنسان،

وكما ظهرت فرقة المعتزلة والجهمية، ظهرت فرقة المجسمة الذين يشبهون صفات الخالق بالمخلوق،

ولكن كل هذه الفرق الضالة كانت مقهورة بسيف الشرع، وقوة السُنّة، وسلطان الدولة الأموية، ثم العباسية، وكثير من رؤوس البدعة قد قُتل بسيف الحق،

مثل: «الجعد بن درهم» رائد التعطيل، و«الجهم بن صفوان» رائد القدرية، و«المغيرة بن سعيد»، وغيرهم،

– وقد ظل المبتدعون في حجر ضب مختفين بضلالهم، لا يرفع أحد منهم رأسًا ببدعة أو بضلال،

حتى تولّى المأمون العباسي، وكان محبًا للعلوم العقلية، وكلام الفلاسفة الأوائل؛ فبنى دارًا لترجمة كتب فلاسفة اليونان،

وأسماها: بيت الحكمة، فأخذت أفاعي البدع تخرج من جحورها، وأخذت في التسلل بنعومة إلى بلاط المأمون،

ثم التفت حول عقله، ولعبت به، ونفثت سموم الاعتزال في رأسه،

ونفق عليه رجال من عينة «بِشر المريسي»؛ الذي كان هاربًا أيام أبيه الرشيد، الذي كان يتطلبه بشدة ليقتله ببدعته،

و«أحمد بن أبي داود» رأس الفتنة ومسعرها، و«أبو الهذيل العلاف»، و«ثمامة بن أشرس»، وغيرهم، حتى مال المأمون لقولهم، واعتنق مذهب الاعتزال،

والذي يقوم على عدة أصول وهي:

1- نفي الصفات وتعطيلها، وأبرزُ معالم نفي الصفات القول: إن القرآن مخلوق.

2- نفي القدر، وأن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم.

3- القول بالمنزلة بين المنزلتين بالنسبة لمرتكب الكبيرة.

4- الوعد والوعيد، ومعناه تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وإيجاب دخول المؤمن الجنة على الله.

5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعناه الخروج على ولاة الأمور بالسلاح.

ظل المأمون معتنقًا لهذه العقيدة الضالة،

ولا يجبر أحدًا على اعتناقها، ويتردد ويراقب الشيوخ والعلماء المحدثين، وهو يخشى مكانهم وتأثيرهم على جماهير المسلمين،

وفي نفس الوقت يحاول استماله من يقدر على استمالته منهم، فلما رأى إعراض العلماء عن القول ببدعته، زيّن له شياطين الإنس: أحمد بن أبي دواد وبِشر المريسي أن يجبر العلماء؛

وذلك بقوة الدولة، وحد التهديد والوعيد، وبالفعل سنة 218هـ.. أمر المأمون العباسي قائد شرطة بغداد العاصمة «إسحاق بن إبراهيم» أن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين، ويمتحنهم في القول بخلق القرآن،

وقرأ عليهم كتاب المأمون الذي يفيض بالتهديد والوعيد، وقطع الأرزاق، والعزل من المناصب لمن يرفض القول بخلق القرآن،

ومن يومها بدأت فصول المحنة العظمى التي تصدّى لها الإمام «أحمد بن حنبل» وحده، ووقفَ في وجه أربابها ودعاتها.

24 رمضان سنة 220هـ.. بداية تعرّض الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) وهو في معتقله بسبب القول بخلق القرآن؛ للتعذيب والضرب بالسياط في هذا اليوم..

لم يصمد في هذه المحنة سوى الإمام أحمد بن حنبل، أما باقي العلماء فأغلبهم قد أجاب فيها خوفًا أو كرهًا، ومن صمد أمام الفتنة ولم يجب مات تحت التعذيب، وفي سجون المبتدعة مثل: البويطي ومحمد بن نوح، ونعيم بن حماد،

– كان صمود الإمام أحمد أعظم فصول هذه المحنة، وسبب تقدّمه وشهرته، ورفع ذِكره، حتى صارت الإمامة مقرونة بـ«اسمه في لسان كل أحد»؛

فيقال: قال الإمام أحمد، وهذا مذهب الإمام أحمد، ولو قدّر اللهُ عز وجل ولم يصمد الإمام أحمد في هذه المحنة لضلَّ خلقٌ كثير، ولربما الأمة كلها.

لذلك قال المزني رحمه الله:

(عصمَ اللهُ الأمة بأبي بكر يوم الرِّدّة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة)

هو الإمام حقًّا، وشيخ الإسلام صدقًا، وإمام أهل السنة، الفقيه المحدّث، والعلم الجبل، وركن الدين، وإمام المسلمين،

وصاحب رابع المذاهب الفقهية المتبوعة: الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أحد كبار أئمة الإسلام

وُلد في ربيع الأول سنة 164هـ (780م) بـ مَرْو، في إقليم خراسان، وقد مات أبوه وهو جنين في بطن أمه،

فتحولت به إلى بغداد، وطلب العلم وهو في سن الخامسة عشرة، أي سنة 179هـ،

أي في نفس العام الذي توفي فيه الإمام مالك، وعنيَ بطلب الحديث، وبرع فيه للغاية، وطاف الأقاليم، وجمع الحديث من الثقات الأعلام،

وتفرغ لطلب العلم، وجمع الأحاديث حتى إنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين، حتى بلغ عدد مروياته من الأحاديث، والآثار ألف ألف حديث،

كما قال ذلك الحافظ أبو زرعة، حتى عَدّوه من أحفظ علماء الإسلام قاطبة.

– ترك الإمام أحمد عددًا من المؤلفات يأتي في مقدمتها «المسند»، وهو أكبر دواوين السُّنّة؛ إذ يحوي أربعين ألف حديث،

استخلصها من 750 ألف حديث، وشرع في تأليفه بعدما جاوز السادسة والثلاثين.

أما كتبه الأخرى فهي:

«الزُّهد»

«السُّنّة»

«الصلاة وما يلزم فيها»

«الورع والإيمان»

«الأشربة»

«المسائل»

«فضائل الصحابة»

وكلها مطبوعة ومتداولة.

– وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، توفي الإمام أحمد في (12 من ربيع الآخر 241هـ/ 30 من أغسطس 855م) عن سبعة وسبعين عامًا،

وخرجت بغداد إلى الشوارع لحضور جنازته، وحضر تغسيله ما يقارب مائة شخص من بني هاشم، فكانوا يقبلوه بين عينيه، ويدعون له، ويترحمون عليه، وقد أُدخل في قبره بعد صلاة العصر؛ وذلك لكثرة عدد الناس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق