الغنوشي.. شيخوخة تأبى الانكسار
قبل أسبوع (20 أبريل/نيسان 2023)، اعتقلت الشرطة التونسية الشيخ راشد الغنوشي (81 سنة) رئيس حركة النهضة أكبر القوى السياسية التونسية، ورئيس البرلمان الذي حله الرئيس قيس سعيّد، وقد أمر قاضي التحقيق بحبسه بتهم تتعلق بانتقاداته لرئيس الدولة الذي قاد انقلابا سياسيا ناعما على المسار الديمقراطي في 25 يوليو/تموز 2021، وبموجبه أقال الحكومة، وجمد عمل البرلمان قبل أن يحله لاحقا ويُجري انتخابات هزلية جديدة قاطعها معظم التونسيين، كما قاطعوا الاستفتاء الهزلي على الدستور، وقد أنتجت تلك الانتخابات التي جرت وفق قانون شائه برلمانا شائها يشبه حاكم البلاد.
اعتقال راشد الغنوشي جرى في سياق حملة واسعة لاعتقال ومطاردة قادة المعارضة التونسية، وقد سبقه على الطريق رئيسا الحكومة السابقان علي العريض وحمادي الجبالي، ونائبه السابق في رئاسة الحركة (المستقيل منها) عبد الحميد الجلاصي، وقياديين آخرين من حركته ومن جبهة الخلاص التي تضم بعض القوى المناهضة للانقلاب، لكن اعتقال الغنوشي تحديدا يحمل دلالة خاصة، فهو كما ذكرنا رئيس أكبر حزب سياسي في البلاد ورئيس البرلمان قبل حله، وهو المفكر السياسي والإسلامي الكبير، وأحد قادة الصحوة الإسلامية العالميين، وأحد من أدّوا دورا كبيرا في ترشيد تلك الصحوة، والسير بها في الطريق الصحيح بعيدا عن الغلو والتطرف مع رفاقه على هذا الدرب الشيخين يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي، ورفاقه المفكرين أمثال حسن الترابي وعادل حسين وطارق البشري ومحمد عمارة وأحمد الريسوني ومحمد سليم العوا وغيرهم.
من الآباء المؤسسين
هو واحد من الآباء المؤسسين للدولة التونسية الحديثة، وهو واحد من الآباء المؤسسين للفكر الإسلامي المعتدل في العالمين العربي والإسلامي، وهو أيضا واحد من أبرز مناضلي الحرية والديمقراطية عالميا، قضى جزءا كبيرا من عمره في السجون والمنافي، حيث حُكم عليه بالسجن 11 عاما في 1981، قضى منها 3 سنوات ليخرج ضمن عفو عام، ثم صدر بحقه حكم بالسجن المؤبد في 27 سبتمبر/أيلول 1987، ولم يتم تنفيذ هذا الحكم بسبب انقلاب 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 من قِبل زين العابدين بن علي الذي أمر بإطلاق سراحه في 14 مايو/أيار 1988، وتعرّض لمحاكمتين غيابيتين حكمتا عليه بالسجن مدى الحياة في العامين 1991 و1998، لكنه كان قد فر إلى الجزائر في العام 1989، ومنها إلى السودان، ومنها إلى لندن حيث حصل على حق اللجوء السياسي عام 1993، ليستمر في المنفى 21 سنة قبل أن يعود إلى بلاده مع نجاح ثورتها.
كان أول لقاء لي معه في منفاه في الجزائر مطلع التسعينيات، ثم التقيته في منفاه الأطول في لندن أواخر التسعينيات، وكانت سنوات الحبس والملاحقة والمنافي ترسم بصماتها على وجهه وشعره، لكنه مثل الكثيرين في دول الربيع العربي استعاد شبابه عقب انتصار الثورة التونسية، ليبدو كشاب في الثلاثين من العمر من حيث الحركة الدائبة لإعادة هيكلة حركته، وتنشيطها وقيادتها في كل الاستحقاقات الديمقراطية، حتى وصل إلى رئاسة البرلمان بعد أن أوصل رئيسين للحكومة، وعدد من الوزراء وحكام الولايات من تلاميذه.
مفكر وسياسي
ضمن قليلين في عالمنا العربي، يجمع الغنوشي بين الفكر والممارسة، وقد ساعدته عقليته تلك على المرور بوطنه وبحركته من اختبارات سياسية صعبة عقب انتصار ثورة الياسمين، إذ تمكن من الوصول إلى حالة وفاق وطني في الأيام الأولى للثورة، تم بمقتضاه تشكيل ائتلاف حاكم رئاسي وحكومي وبرلماني (ترويكا) من ثلاثة أحزاب ذات الأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي، وبموجبها تم اختيار المنصف المرزوقي رئيسا للبلاد، ومصطفى بن جعفر رئيسا للبرلمان التأسيسي، وحمادي الجبالي (النهضة) رئيسا للحكومة. وحين نشطت الثورة المضادة في تونس في موجتها الأولى التي حاولت التستر خلف جريمة اغتيال السياسيَّين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، نجحت جهود الغنوشي مع رفاقه السياسيين في العبور من تلك الموجة العاتية، إذ تم التوافق على تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة مهدي جمعة (29 يناير/كانون الثاني 2014)، بعد استقالة حكومة “الترويكا”.
لا يمكن تجاهل دور الغنوشي مع ثلة من السياسيين التونسيين الآخرين في الحفاظ على مكتسبات الثورة، وأهمها المسار الديمقراطي لمدة عشر سنوات انتهت بانقلاب الرئيس المنتخب نفسه، الذي كان محسوبا على الثورة ذاتها، وخلال تلك السنوات العشر تعرضت البلاد لمؤامرات كثيرة بخلاف ما وقع عقب اغتيال بلعيد والبراهمي، وقد نجحت حكمة القادة السياسيين في العبور منها، لكن الانقلاب الأخير جاء في ظل حالة استقطاب سياسي شديد، وفّر له غطاء شعبيا في البداية قبل أن يكتشف التونسيون الخديعة، ويعودوا إلى ساحات الثورة مجددا للخلاص من هذا الانقلاب المدعوم إقليميا.
اعتراف بالأخطاء
ولأن الغنوشي بشر، فهو يخطئ ويصيب، وقد اعترف شخصيا إجمالا ببعض أخطائه في حديث لصحيفة الرأي العام (18 نوفمبر 2021) خاصة في “ما يتعلق بإدارة الحكم وهندسة التحالفات الحكومية والحزبية”، وقد تسببت بعض أخطائه في انفراط تحالفه مع أول رئيس لتونس المنصف المرزوقي، كما تسببت في انقسامات داخل حركة النهضة نفسها، وخروج بعض مؤسسيها وكوادرها، وكان الخطأ الأكبر للغنوشي -من وجهة نظر هؤلاء المنشقين- هو تمسكه بموقع رئاسة الحركة التي ظل على رأسها لفترات طويلة، وهو ما يخالف مبدأ تداول السلطة.
إن شخصا مثل الغنوشي اشتعل رأسه شيبا في العمل السياسي، وبين السجون والمنافي، لهو عصي على الكسر حيث يريد قيس سعيّد، وإن شخصا مفكرا قدّم للمكتبة العربية والعالمية عشرات الكتب والمحاضرات بأكثر من لغة سيَعُد حبسه خلوة يُنتج فيها المزيد من الكتب والأفكار في أواخر حياته، وإن حبس مثل هذا الرمز الكبير لن يحل مشكلات تونس، بل سيزيدها تعقيدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق