يحتفل الكيان الصهيوني هذه الأيام بالذكرى الـ75 لقيامه. وبحسبة بسيطة وغير منحازة، حقّق حزمة من "الانتصارات" على الأمة بأسرها، وليس على الشعب الفلسطيني فقط، ولكنها "انتصارات" ممزوجة بالعلقم والدم، فعلى الرغم من حجم الدعم الهائل الذي حظي به من "القريب" قبل البعيد، إلا أنه لم يحقّق كامل "الحلم" الذي رافق "الآباء المؤسّسين" للكيان، بل إنه يمر اليوم بأخطر معضلةٍ شهدها منذ قيامه، حتى أن "شهيّة" كثيرين منا انفتحت على أمنيةٍ عزيزة، أن "ينتهي" بفعل تفاعلات هذه المعضلة، أي أن ينهار من الداخل كما يُقال، وهذا حلم مجنّح بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلا، وهو، على نحوٍ أو آخر، "مخدّر" خطير قد يعصف بالعقل الجمعي العربي، فلا يمكن لهذا الكيان أن يتفكّك ذاتيا، ليس لأنه عصيٌّ على هذا الأمر، بل لأنه ليس كيانا أو حتى "دولة" بالمعنى التقليدي للدول، فهو بمثابة "حاملة طائراتٍ" تعوم في بحر العرب، ومن ورائها جيوش جرّارة وأنظمة ودول تمدّها بأسباب الحياة. وفي اللحظة التي يشارف فيها على هاوية خطيرة، تجد أن أنابيب الإسعاف ستمتدّ إليه من كل حدبٍ وصوب. ومع هذا، هو ليس كيانا عصيّا على التفكيك، فهو، في النهاية، حاصلُ جمعِ عناصر دولية ومحلية، متى ما تغيّرت يتغيّر هو بالتأكيد. ويبدو أن بلادَنا دخلت حقبة التغييرات الكبرى، المصاحبة لسلسلة من التغييرات في العالم كله، صحيح أن الصورة اليوم في بلادنا تبدو غاية في السوء، إلا أن هذا السوء تحديدا هو ما ينذر بوقوع التغيير الحقيقي، فقد أصبحت لدينا اليوم دول عربية تخوض حربا ضد نفسها، وبمقادير مختلفة، جديدها أخيرا السودان، وقد سبقتها إلى هذا الواقع البائس ليبيا والعراق واليمن، وعلى نحو أو آخر لبنان، أما بقية الدول فهي تعيش حالة متأرجحة بين الفشل والإفلاس التام، وبعضها يقف على أعتاب هاوية مدمّرة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا (تونس مثلا)، وقليل جدا من هذه الدول يتمتع باستقرار نسبي. وبالجملة، تعيش معظم بلاد العرب مخاضا عاتيا قد يسفر عما هو غير متوقّع، ولكنه سيقع. وهذا كله يعني أن حالة الاضطراب التي يعاني منها الكيان، تواجهها حالة مماثلة في الطرف الآخر، ما يؤكّد أن زلزلة كبرى في طريقها إلينا، عاجلا أو آجلا.
حالة الاضطراب التي يعاني منها الكيان الصهيوني، تواجهها حالة مماثلة في الطرف الآخر، ما يؤكّد أن زلزلة كبرى في طريقها إلينا
يثبت كشف حساب 75 عاما من عمر كيان الاحتلال أن صورة المستقبل ليست لصالحه، ويمكن إجمال الحصيلة على نحو مختصر، وفق ما أجمله كاتب عبري معروف بيساريته، روغل ألفر (هآرتس، 24/4/ 2023، مقال "دولة إسرائيل: لا يمكن، بالتأكيد هذا أمر انتهى): الديكتاتورية: التهديد معروف. لا توجد حاجة للتوسّع في الحديث عنها. يمكن الانتقال الى الخطر التالي. نتنياهو: حتى لو أنه تم إحباط الانقلاب النظامي فإن نتنياهو سيبقى؛ مع محاكمته وعائلته ومع الخراب الذي يُحدثه في كل يوم، سواء كان في الحكم أم في المعارضة. الاحتلال: لا توجد في إسرائيل حركة احتجاج جماهيرية ضد استمرار الاحتلال والأبارتهايد، وتؤيد إخلاء شاملا للمستوطنات ووقف الجريمة الأخلاقية المقيتة التي ترتكبها إسرائيل في الضفة وفي شرقي القدس منذ 56 سنة. في بداية سنته الـ 76، الاحتلال الإسرائيلي منحوتٌ في الجينات القومية. الإرهاب (يعني المقاومة): ينبع من الاحتلال، وهو جزء من روتين الحياة في إسرائيل. الإسرائيليون سيستمرون في العيش بخوف، والموت والإصابة بالجروح في العمليات الإرهابية. الديمقراطية الحريدية: الأرقام هي حاسمة. في 2026 سيكون نحو نصف طلاب المرحلة الأساسية في إسرائيل من الحريديين والعرب. هذان الجمهوران ضد الصهيونية. مرّة أخرى، عيد سعيد للصهاينة وبالنجاح. يؤكّد هذا المعطى أن إسرائيل ستتحوّل بسرعة إلى دولة مع اقتصاد عالم ثالث ومتخلفة. هرب الأدمغة: بدأ المثقّفون يهربون. وسيزداد هربهم فقط. هذا يشمل أطباء، يمكن أن تكون المستشفى في إسرائيل في السنة المائة للدولة تشبه الكنيس أكثر مما تشبه غرفة العمليات. غلاء المعيشة: هو عرض أولي لحقيقة أن إسرائيل لا تُدار من أجل رفاه سكانها، بل من أجل رفاه حكّامها الفاسدين. رمز لحقيقة أن الحياة في إسرائيل صعبة وغير عادلة. الحرب القادمة: على الطريق، هذا يقال علنا، وستكون وحشيةً وصعبةً على الجبهة الداخلية أكثر من سابقاتها، وستكون متعدّدة الساحات ومليئة بالصواريخ التي ستسقُط مثل الأمطار من كل جهة على السكان غير المحميين.
الكيان اليوم يقيم احتفالاً بالاستقلال، ولكنه استقلالٌ محتلٌّ ومختلٌّ وبلا مستقبل
هذه هي الصورة التي رسمها قلمٌ "آخر" من ناحيتهم، وهي أكثر قتامةً مما قيل، فنحن نتحدّث عن كيان هجين استعماري إحلالي، وشعب محتل يأبى أن يستكين. الكيان اليوم يقيم احتفالا بالاستقلال، ولكنه استقلالٌ محتلٌّ ومختلٌّ وبلا مستقبل.
ليست الصورة على الجانب الآخر أفضل حالا، لا إسلاميا ولا عربيا ولا فلسطينيا، ولكن الجانب الأكثر إضاءة، وقد يبعث على الأمل فعلا، أكثر من أي شيءٍ آخر، هو وجود المقاومة، مقاومة الاحتلال الصهيوني، والعسف والدكتاتورية العربية، والانهيار في النظام العربي الرسمي، وحالة الإفلاس الكبيرة التي يعيشها. هذا يعني ببساطة أن هناك "فراغا" كبيرا في العقل الجمعي العربي، لا يملأه إلا كيانية نظيفة تعبّر عن حقيقة الشوق العربي الجامح إلى التحرّر ليس من الدكتاتورية والاستبداد، بل حتى من الاحتلالات "الوطنية" التي تنخر في عظم الأمة.
قد يبدو هذا الكلام معسولا ومغسولا بكمٍّ كبير من التفاؤل، ولكن استبطان التاريخ يقول لنا إن أكثر حقب الماضي انحطاطا تلاها تحرّر حقيقي واغتسال من أمراض الداخل وأخطار الخارج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق