الأربعاء، 7 يونيو 2023

خارطة طريق الأمة المنكوبة (4) ربح أولى وأهم المعارك

 خارطة طريق الأمة المنكوبة (4)  ربح أولى وأهم المعارك

ما السبب في فشل الربيع العربي؟ طبعا شراسة الاستبداد، ورعاته الإقليميون والدوليون، لكن أيضا فشل الديمقراطيين تجاه الحرب النفسية والإعلامية التي شنها عليهم هذا الاستبداد وما يزال.

كان القانون وسيبقى أن النظم السياسية تموت وتولد في العقول وفي القلوب سنينَ وأحيانا عقودا، قبل أن تموت أو تولد في القصور الرئاسية والبرلمانات، يجب إذن استعادة المبادرة لربح هذه المعركة المصيرية.

لهذا على الديمقراطيين اكتساح كل مراكز النفاذ (إلى الجمهور) وكل مراكز النفوذ (الإعلامي)، وترديد السردية الديمقراطية في كل مناسبة، لأن سلاح الاستبداد ترديد نفس الأكاذيب.

عليهم الالتزام دوما بموقع الهجوم، ولا بأس أن يكون ذلك بقدر كبير من الوقاحة، لأن أعداء الديمقراطية يمارسونها يوميا، ولا يفلّ الحديد إلا الحديد.

لمواجهتهم لخّصت تبريراتهم وحججهم البائسة التي يسوقونها لتضليل المجتمع وتغليب كفة الرعايا على المواطنين:

الحجة الأولى: ألا يكفي من خراب ربيعكم العبري وثوراتكم الديمقراطية المزعومة وما كلفت شعوبها من ويلات؟

وعليه نرد عليهم بأنكم أنتم أيها الاستبداديون سبب الكارثة التي مرت بها شعوب الربيع العربي، وأنتم مجرمون في حق هذه الشعوب 3 مرات.

الأولى، عندما تسببتم بفسادكم وظلمكم وعجزكم عن توفير أبسط مقومات الحياة الكريمة في خروج الناس للشارع وموت آلاف من الشباب دفاعا عن حقهم في الحياة.

الثانية، عندما نظّمتم الثورة المضادة ولم تتورّعوا عن تدمير دول وشعوب بأكملها بما جنّدتم من مال فاسد وإعلام فاسد وسياسيين فاسدين ومرتزقة وتدخل خارجي.

وأنتم مجرمون مرة ثالثة، لأنكم لم تتعلموا شيئا من هذه الثورات، وعدتم أكثر صلفا وغباء لنفس الممارسات التي ولّدت الموجة الأولى لثورات الربيع العربي. واصِلوا الرقص على البركان هل تظنون أنفسكم قد نجوتم؟ والحال أن السؤال ليس هل سينفجر البركان مجددا تحت أقدامكم، وإنما متى!

وظيفة الديمقراطية توفير الحريات الفردية والعامة وبناء دولة قانون ومؤسسات وتسريع خروج الناس من وضعية الرعايا إلى وضعية المواطنين، وليس من وظيفتها خلق الوظائف أو الثروة

الحجة الثانية: ألا ترى كيف فشلت الديمقراطية فشلا ذريعا في تونس مهد الربيع العربي المزعوم وكيف كره الشعب برلمانا أضحوكة وكيف اختار العودة لنظام الرجل القوي؟

وهنا ستكون لدينا فئتان من الشعب:

  • إذا كان مخاطبك من الشعبويين الذين يقدّسون هذا المفهوم الغامض المدعو بالشعب، فإنه يمكن الرد على هذا ردا قاسيا:

الشعب ليس كائنا منزها فوق كل نقد، فما هو إلا تجمع بشري يمكن أن يصيب وأن يخطئ، خاصة إذا كان ضحية مغالطة متواصلة ومخطط لها بكثير من الخبث من طرف وسائل التضليل التي يحركها المال الفاسد. إنه هو لا غير الذي انتخب مجلس النواب الأضحوكة، وكان عليه انتظار الانتخابات التالية لاستبداله بما هو أحسن، لم يكن الحل أبدا إفراغ الرضيع (حكم المؤسسات والقانون) مع ماء الحمام القذر (أعني النواب الفاسدين). أما النخبة التي يضع عليها وزر نكبته فهي نخبته، هو الذي أفرزها بتعليمه وإعلامه وقيمه، والخيل العربية الأصيلة لا تلد الحمير.

  • أما إذا كان مخاطبك من الذين يدنّسون الشعب وأنه كمشة من الرعاع والسوقة ولا يعرفون معنى للديمقراطية:

ذكّره بأن المصريين والتونسيين وقفوا ساعات طويلة تحت الشمس في انتخابات 2011 بنسب مشاركة تجاوزت الـ50% من القائمات الانتخابية. لكن نسبة مشاركتهم فيما تلى ذلك لم تتجاوز الـ10% دون نسيان كم من ثورات ديمقراطية قام بها شعب السودان منذ الاستقلال أو انتفاضة الشعب الجزائري سنة 1988 وغيرها من التحركات الشعبية في المنطقة.

الحجة الثالثة: ألم تفهم أن ما تريده شعوبنا العربية قبل كل شيء هو التقدم الاقتصادي، وأن ما حققته الصين هو ما يجب أن نحققه نحن؟

70 عاما وأنتم تصدّعون رؤوسنا بأن التقدم الاقتصادي يأتي قبل الحرية فضيعنا معكم التقدم والحرية وما زلتم ترددون هذه الأسطوانة المشروخة.

بخصوص النموذج الصيني الذي حقق التقدم عن طريق التضحية بالحرية، تذكّر أن هناك بلدانا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا حققت وتحقق نموا اقتصاديا مذهلا دون أن تضحي بالحرية على مذبح التقدم الاقتصادي. والعكس بالعكس، أي أن هناك أكثر من نظام استبدادي دمّر الاقتصاد ودمر الحرية: نموذجا الجزائر وليبيا وسوريا.

الحجة الرابعة: قل ما تشاء لكن أولوية الأولويات في العالم العربي هي الخروج من الفقر للملايين، والديمقراطية ليست هي التي تطعمهم من جوع بل يمكن كما رأينا في تونس أن تكون سببا في مزيد من الفقر

عندما تذهب لطبيب الباطنة فإنك لا تلومه على أنه لم يقتلع لك ضرسا يتسبب في كثير من الألم. لكلّ مجال اختصاصه ومن العبث أو الجهل تحميل مجال مسؤولية مجال آخر. في نفس السياق، وظيفة الديمقراطية توفير الحريات الفردية والعامة وبناء دولة قانون ومؤسسات وتسريع خروج الناس من وضعية الرعايا إلى وضعية المواطنين، وليس من وظيفتها خلق الوظائف أو الثروة.

أقصى ما يمكن أن تفعله وضع الأسس المتينة لماكينة اقتصادية فعالة، مثل وجود قضاء مستقل يفصل في النزاعات الاقتصادية ويحفظ الحقوق لأصحابها ويحارب الفساد. ما عدا هذا عليك لتحريك الآلة الاقتصادية بأيديولوجيا أخرى مثل الليبرالية أو الاشتراكية أو الاقتصاد الاجتماعي التضامني أو غير ذلك. في كل الأحوال، لا تحمّل الديمقراطية مسؤولية ليست مسؤوليتها. يكفيها شرفا حفاظها على جزء مهم من حاجيات الإنسان السياسية والمعنوية مثل الحرية والمسؤولية والكرامة والمساواة أمام القانون.

والآن بيني وبينك وأنت تحدثني عن الفقر، ومع الاتفاق الكامل على أنه من الأفضل أن نكون أحرارا وأثرياء، هل تفضّل أن تكون فقيرا في بلد فيه الحد الأدنى من الحرية مما سيمكنك من الاحتجاج على وضعك لأجل تحسينه، أم تكون فقيرا في دكتاتورية لا تستطيع فيها أن تفتح فمك إلا عند طبيب الأسنان على فرض قدرتك على دفع أجرته؟!

آه.. تفضل العيش فقيرا في نظام دكتاتوري لأنه يوفر لك الأمن والأمان. نعم كما هناك حالات سرطان مستعصية على العلاج، هناك حالات رعوية سياسية لم يعد بالإمكان تداركها.

الحجة الخامسة: ألا تعلم يا هذا أن الديمقراطية هي سلعة غربية يبيعها الغربيون في إطار غزوهم الثقافي لأمتنا؟

أنصح المخدوعين إن كانوا من المثقفين بقراءة كتاب الباحثين البريطانيين Graeber وWengrow وعنوانه (The dawn of everything) وهو من أثرى الكتب في التاريخ والأنثروبولوجيا.

من جملة ما يؤكّده هذا الكتاب أن القصّة التي يردّدها الغربيون عن انطلاق الديمقراطية من أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وأن الإغريق هم آباء الحضارة الأوروبية، خرافة لا أساس لها من الصحة. فالإغريق إلى يومنا هذا هم شعب متوسطي أقرب للبنانيين والسوريين والمصريين منهم للأيرلنديين أو الألمان.

أما الديمقراطية في شكلها البدائي الذي عرفته أثينا أي حكم المجالس بدل حكم الفرد، فيقول الكاتبان إنها كانت شائعة في مدن ما بين النهرين 3 آلاف سنة قبل أثينا. وإن المجتمعات البشرية في كل الحضارات وفي كل القارات عرفت الشدّ والجذب والصراع المتواصل بين حكم المجالس وحكم الفرد. ليطمئن إذن إخوتنا القوميون أن الديمقراطية ليست سلعة غربية، خاصة أن أكبر الدكتاتوريات في القرن العشرين أي النازية والفاشية والشيوعية كانت كلها دكتاتوريات غربية.

الحجة السادسة: هل نحن بحاجة لهذه البضاعة الغربية ولنا الشورى تغنينا عن كل أيديولوجية مستوردة تتنافى مع تعاليم الشريعة السمحاء وتتطاول على الأمر الذي لا يعصى "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" (سورة النساء/ من الآية 59)

ليطمئن الإخوة والأخوات الإسلاميون، فالديمقراطية ليست دينا ينافس الإسلام، وفهم المداخلة لأمر "أطيعوا أولي الأمر منكم" قضية مخابرات الاستبداد، وتفويض الدين، ومال فاسد، وليس قضية فكر يستحق النقاش. أما الشورى فيمكن اعتبارها جزءا من الديمقراطيات التي يتحدث عنها الباحثان البريطانيان، لكن كما تطورت وسائل المواصلات والاتصال والحكم، فلا عيب في تحديث الشورى لترتقي لمستوى تعقيد المجتمعات المعاصرة.

الحجة السابعة: لكن من أين لك أن تنكر أن الأنظمة الغربية تتدخل دوما في شؤوننا بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان ونحن دول مستقلة ولا حق لأحد أن يتطاول على الاستقلال

أنتم دول مستقلة مثلما أنا إمبراطور المريخ! أما الأنظمة الغربية فهي صديقتكم أنتم الاستبداديون، بل وحماتكم، وليست تدخلاتهم المحتشمة أحيانا إلا لمجرد رفع العتب أمام شعوبهم والتمويه على شعوبنا. لقد رأينا استقبالهم الفاتر للثورات الديمقراطية العربية. خلافا لما تدّعون، الديمقراطية العربية ستولد لا بفضل الغرب (غرب الحكومات) وإنما باستقلال تام عنه.

الحجة الثامنة: ما زلت تعتقد حقا أن للديمقراطية مستقبلا؟ ألم تقرأ كل التقارير للمنظمات المختصة التي تثبت تراجعها في كل مكان حتى في معقلها الأميركي والأوروبي؟

نعم الديمقراطية في وضع صعب، لكن لا أصعب منه إلا وضع نظمكم الاستبدادية. لقد كُنست هذه الأنظمة كنسا في فترة وجيزة من تاريخ البشرية في أوروبا الغربية والشرقية، في أميركا اللاتينية وحتى في أفريقيا جنوب الصحراء، وهي تحت التهديد المباشر في كل مكان من الوطن العربي وحتى في روسيا. أما الصين، فمشاكلها الديمغرافية وتباطؤ اقتصادها وظهور أجيال جديدة تمارس المقاومة السلبية عوامل لا تبشّر بالخير للنموذج الذي يبرق ولكنه ليس ذهبا.

الحجة التاسعة: طيب إذن مبارك عليك وبالبنين والبنات ديمقراطية العراق وديمقراطية لبنان

آه.. أصبتني في مقتل أيها الخبيث. فعلا لو اكتفى أصدقاؤكم الغربيون بدعم الاستبداد سرا وجهرا لتحمّلنا مصائبهم، لكنهم ضربونا ضربة قاتلة وهم يفرضون بالدبابات كاريكاتير ديمقراطية في العراق، وقبلها في لبنان وإن كان برضا ولا أقول بتواطؤ قادة البلد المسكين.

بطبيعة الحال مثل هذه الديمقراطية لا توفّر الاستقرار، بل هي أهم عامل في غيابه. هي لا تخلق دولة قانون ومؤسسات، وإنما تخلق شكلا منمقا من دولة الأجهزة والعصابات. هي لا تخلق شعبا من المواطنين بل تخلق شعبا من الزبائن. هي لا تكون انطلاق المسلسل الوحدوي لأنها عامل فرقعة الدولة نفسها.

ما سنبني من ديمقراطيات ستكون النقيض المطلق لهذه الديمقراطيات المسخ بل ستكون ديمقراطيات أكثر تطورا حتى من الموجودة في الغرب.

الحجة العاشرة والأخيرة: عش يا فؤادي بالمنى، قبل تحقيق هذا الحلم، كيف ستواجهون أنظمة انتصرت عليكم بالضربة القاضية وأفشلت ما تسمونه الثورة الديمقراطية السلمية؟ ألا تعرفون أن هذه الأنظمة أقوى من أي وقت مضى، والدليل على ذلك بقاء النظام السوري على أنقاض الدولة والشعب؟

إنه السؤال الرئيسي الذي يجب الردّ عليه دون التنقيص من قوة الخصم الاستبدادي، لكن دون المغالاة فيها، لأن هذا الخصم نفسه "في النازعات غرقا".


أي خارطة طريق لهذه الأمة المنكوبة؟ شروط البقاء (1-5)







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق