من كان شيخه «جوجل» فبالتعالم عُوجل))
خباب مروان الحمد
باحث في مركز آيات
الشيخ العالم المالكي أحمد الداودي كان عالماً متبحراً لكنه لم يكن له شيخ يربيه ويُعلمه، ولم يكن له أبٌ في العلم، وأغلب من ترجم له قالوا عنه: «كان درسه وحده لم يتفقه في أكثر علمه على إمام مشهور وإنما وصل بإدراكه».
وقد ذكر القاضي عياض موقفاً مهماً يوضح ضرورة التلقي عن الأشياخ العلماء، وأنّ من الخطأ تلقي المرء العلم عن نفسه، أو عن أشياخٍ لم يبلغوا مبلغاً كبيراً في العلم؛ حيث قال: «وبلغني [أحمد بن نصر الداودي] أنه كان ينكر على معاصريه من علماء القيروان سكناهم في مملكة بني عبيد ، وبقاؤهم بين أظهرهم، وأنه كتب إليهم مرة بذلك. فأجابوه ( اسكت لا شيخ لك))، أي لأن درسه كان وحده، ولم يتفقه في أكثر علمه عند إمام مشهور، وإنما وصل إلى ما وصل بإدراكه، ويشيرون أنه لو كان له شيخ يفقهه حقيقة الفقه لعلم أن بقاءهم مع من هناك من عامة المسلمين تثبيت لهم على الإسلام، وبقية صالحة للإيمان، وأنهم لو خرج العلماء عن إفريقية لتشرّق من بقي فيها من العامة الألف والآلاف فرجحوا خير الشرين، والله أعلم».
من هنا ينبغي على كل طالب علم أن يلزم أهل العلم في بلده، ويعرف لهم قدرهم؛ ويدرس عندهم، ويتدارس معهم العلم، ويستفيد من فوائدهم وأخلاقهم ويتخلق بأفضلهم سمتاً وهدياً ودلاً حسناً، ومن الضروري أن يكون ملازماً لعلماء بلده ولا ينصرف عن مجالسهم لظنه أنه أخذ شيئاً يكفيه؛ فإنّ هذا العلم إسناد ، وهذه المعرفة الشرعية سلسلة، وهذه الكتب لا يُعرف قدرها إلا في حِلَقِ العلم، ولهذا قال الشاطبي في الموافقات: “لايزال المرء ينظر في المسألة فلا تنجلي له فما هو أن يجلس بين يدي شيخه ويسمع منه من غير شرح أو بيان مستفيض حتى يفهمها”.
وقد كان العلماء أنفسهم يلزمون مجالس أشياخهم بمجالس علمية خاصة معهم؛ رُغم أنّهم بلغوا من التعليم شأواً عظيماً؛ فهم يتعلّمون على مشايخهم، ثمُّ يُعلّمون طلابهم.
وكل من ظنّ أنّه سيكتفي بفهم العلم لفرط ذكاءٍ فيه، وكثرة نبوغٍ لديه فإنّه سيتكشف في يومٍ ما جهالة نفسه؛ فقد قيل: «من البليّة تشيُّخ الصحيفة».
وقيل: «لا تأخذ العلم عن صُحُفِي ولا مُصحفي».
وقال الإمام الشافعي: «من تفقه من الكتب ضيع الأحكام».
وقال يزيد بن هارون عمن فوّتوا وغابوا عن مجلس علم ورُغم أنهم طلبوا التحديث مرّة أخرى فقال له:
«يا أبا فلان أما علمت أنه من غاب خاب وأكل نصيبه الأصحاب».
وقيل شعراً:
من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة … يكن من الزيغ والتحريف في حَرَمِ
ومن كان أخذه للعلم عن كتب … فعلمه عند أهل العلم كالعدمِ
وكانوا يقولون:
” من كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه” .
وليس شرطاً أن يكون الخطأ لأجل تصحيف وتحريف في قراءة الكتب، أو في الفهم فحسب بل الخطأ متعدد في طريقة فهمه لكلام العلماء عموماً؛ وفي ممارسته وتنزيلاته العلم على الواقع، وفي عدم استفادته من تجارب شيوخه ومعاناتهم ومعالجتهم أحداث الزمان.
وقد وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفيد من تجربة موسى عليه الصلاة والسلام مع قومه رُغم أنّه ذهب إلى السماء العليا بصحبة أمين الوحي في السماء جبريل عليه السلام وتلقى من ربه الأمر بالصلاة، ولم يستنكف عليه الصلاة والسلام أن يستفيد من تجربة من سبقه في النبوة والرسالة؛ وكذلك فعل من قبله موسى عليه الصلاة والسلم حين قال للخضر: { هل أتبعك على أن تعلمن مما عُلّمت رُشدا}.
ومن اللطائف المذكورة في بغية الوعاة أنَّ الشيخ محمد بن يوسف البحراني الإربلي، أبو عبد الله موفق الدين الديب النحوي، قد قال عنه مؤلف «تاريخ إربل»: وكان حسن الظن بالله، وأكب على علم النحو فبلغ منه الغاية، وجاوز النهاية، وصار فيه آية، ولم يكن أخذه عن إمام، إنما كان يحل مشكله بنفسه، ويراجع في غامضه صادق حسه، حتى جرى بينه وبين عمر ابن الشحنة مناظرة، فظهر موفق الدين هذا، فلم يكن لابن الشحنة قرار إلا أن قال: أنت صحفي، فلحق موفق الدين مكي بن ريان، فقرأ عليه أصول ابن السراج، وكثيراً من كتاب سيبويه، ولم يفعل ذلك حاجة به إلى إفهام، وإنما أراد أن ينتمي على عاداتهم في ذلك إلى إمام، وكان مكي كثيراً ما يراجعه في المسائل المشكلة، والمواضع المعضلة، ويرجع إليه في أجوبة ما يورد عليه”.
وقديما قيل:
من لم يشافه عالمًا بأصوله
فيقينه في المشكلات ظنون
وبهذا يظهر أنَّ العالم للمتعلم ضرورة؛ كما أنّ الأب للابن ضرورة؛ وقد كان العلماء يقولون:
«الشيخ أب الروح، وأب الروح أكرم وأعظم وأجّل من أب الجسد».
وقالوا كذلك «إن شيوخ طالب العلم هم آباؤه وأجداده ومن لم يكن له شيوخ يتلقى عنهم العلم، ثم ادَّعى العلم، وتكلم فيه: فهو دَعيٌ فيه، مجهولُ الهُويَّة والنسب».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق