الفتى الأسمر الذي أسقط الأوهام
أوهام كثيرة أسقطها الفتى المصري الأسمر وهو يخطو فجر الثالث من يونيو/حزيران نحو الأسلاك الشائكة في الحد الفاصل بين سيناء والأرض العربية التي يحتلها الكيان الصهيوني، ليفتح من خلالها طاقة أنوار شديدة تنير ظلامًا شديدًا في جوف الليل الذي صنعه دعاة الاستسلام والسلام المزعوم، كانت تلك البوابة هي بوابة العبور إلى ميلاد جديد للشعب الذي تصور حاكموه أنه راح في سبات عميق، ونسى بوصلته نحو عدوّه الأبدي، حينما شق سكين الفتى صاحب عيون الصقر الأسلاك الحديدية كان يمزق أستار أوهام أطراف عديدة.
الصدمة والرعب في الكيان
كانت الصدمة المرعبة لقادة الكيان الصهيوني هي تعبير عن سقوط أكبر الأوهام ألا وهو تأمين الجانب المصري تجاه الكيان، لقد تصوّر العدو وأبناؤه أن الجبهة المصرية آمنة طالما بقيت علاقتهم مع النظام جيدة، وبات أمن المواطن الإسرائيلي أهم أولوياته، وصنعوا حاجزًا حديديًا بطول الحدود، ورحّلوا سكان سيناء أكثر من 10 كيلومترات، ولم يبق على حدود مصر معهم إلا قوات شرطة مصرية قليلة، فكانت طلقات رصاص الفتى الصغير ذي الـ23 عامًا تمزيقًا لجهد نصف قرن من السلام المزعوم والثقافة المسمومة، وتغيير الهوية والحدود التي شغلتهم خلال السنوات العشر الأخيرة.
لم تفلح ثقافة التسطيح الفكري وتجريف العقل مع شاب لم يكمل تعليمه، لم يشارك في أي معركة مع العدو، وحين كانت يناير كان عمره عشر سنوات، لم يستوعب ما فعله أحمد الشحات حينها ولا شباب الثورة حين طردوا السفير الصهيوني وجواسيسه من على نيل القاهرة.
كانت الصدمة الأكبر لدى العدو المحتل هي تلك الفرحة المصرية والعربية العارمة لكل قتيل، وبكل رصاصة أطلقها محمد صلاح تجاه المغتصبين من الكيان، لقد ضاع مجهود خمسة عقود من محاولة استمالة الشعب العربي في مصر، مصر هذا العملاق الغافي قليلًا منذ زار أنور السادات تل أبيب وعقد السلام معها، غفت مصر قليلًا والتعبير هنا بأعمار الدول والشعوب، غفت فظن العدو أنه أمن الشعب الذي يخشاه في أحلامه، وقد رأوه في حرب تشرين، والاستنزاف في عمليات الصاعقة المصري فإذا بهذا الأسمر الأمي حفيد إبراهيم الرفاعي الذي لقبه العدو بالشبح يخطو على خطى سعد إدريس حلاوة، سليمان خاطر، وأيمن حسن، وتنظيم ثورة مصر بقيادة محمود نور الدين وخالد جمال عبد الناصر، هؤلاء الذين تصدوا عبر سنوات السلام المزعوم لخطوات النظام المصري في التقارب مع الكيان الصهيوني، أو تعدي أي مغتصب للحدود المصرية.
هذا الاستقبال الأسطوري لبطولة ابن كفر العمار في محافظة القليوبية إحدى محافظات الدلتا، تلك القرية وما حولها تشتهر بفاكهة العمار يأتي ولدها في موسم المشمش ليقدم أغلى ثمرة من ثمرات تلك القرية، يقدم استشهاده، مؤكدًا أن عدونا المصيري من يحتل أرضنا العربية في فلسطين، ليزيح أستارًا سوداء غطت على شعب فخيلت لأنظمة حكمه والعدو أنه راح في سبات، إذ هذا الشعب يعلمهم أنه يعرف طريقه ومصيره.
وهم المصري الصامت
تصور بعض منا أن استكانة شعب مصر ضعف ومذلة، وأن هذا الشعب الذي مال إلى السكون في سنواته الأخيرة لم تعد فيه روح بحد تعبير أمل دنقل في قصيدته الخالدة (جاء طوفان نوح) تصور بعض ممن يملكون زمام الأمور أنها قد استكانت لهم، وأنهم أحكموا السيطرة، ونزعوا نخوة المصري وقدراته، فإذا بهذا الفارس يسقط أوهامهم ونظريتهم كلها.
بل ربما أصابت الدهشة هؤلاء الذين ينظرون تلك النظرة إلى المصريين تلك القدرة الفائقة لمجند الأمن المركزي، فقد عاشوا وعشنا نتخيله هو وعصاه أو سلاحه شيئًا واحدًا، تراه لا تلتفت حوله، ناظرًا أمامه منفذًا لأوامر ضباطه بلا تفكير، أو هكذا تصورناه يجئ محمد صلاح ليؤكد لنا عبقرية المصري في الوعي والتخطيط والإدارة.
خطط لقطع أسلاك الحدود فكان سكينه الحاد، أخذ عدته من السلاح وعددًا كافيًا من الرصاص ليردي أكبر عدد من الأعداء لقاء استشهاده، اختار توقيت عمليته فجرًا لتشرق معه أنوار جديدة على مصر، سار أكثر من أربعة كيلو مترات بما يمثل من عزيمة، نفّذ جزءًا من العملية واختبأ في انتظار القادمين، لقد وعى، فقاد، فنظم، فأدار عمليته بشكل يصعب على أي مفكر أو تنظيري تصوره، هكذا على طريق أبطال السير الشعبية علي الزيبق، أحمد بن شبيب، وهمام الفرشوطي، أيضًا أدهم الشرقاوي، ربما أيضًا تلاقى مع بطل السيرة الشعبية أحمد بن شبيب ابن صعيد مصر في كون بطلنا الجديد يعشق فن الرسم بينما كان مارد الجبل شاعرًا.
أطرف ما جاء في احتفاء المصريين ببطلهم الذي أفاقهم قليلًا هي محاولات نسبه إلى محافظات مصرية قبل الكشف عن موطنه الأصلي محافظة القليوبية، فقد قيل إنه صعيدي من محافظة قنا إحدى محافظات جنوب مصر وراح أهل قنا يتباهون بالعملية الفدائية لفتاهم الأسمر، ملامح محمد صلاح بسمار لونه وعينيه الواسعتين، أنفه الحادة قد توحي لك أنه أحد أبناء الجنوب.
ثم تمنت محافظة الشرقية أن يكون أحد أبنائها امتدادًا لأبنائها الذين تصدوا لاختراقات صهيونية للحدود سليمان خاطر الذي قتل سبعة صهاينة على الحدود حينما استفزوا وطنيته بتخطي الحدود المصرية في عام 1985، ثم أيمن حسن المجند المصري أيضًا الذي قتل 12 مغتصبًا صهيونيًا عام 1990، وراح أهل الشرقية يتغنون باستكمال الفارس الأسمر مشوار المقاومة.
أطلق شعب مصر والتواصل الاجتماعي على محمد صلاح (فخر العرب الحقيقي) تعبيرًا عن البطولة الحقيقية والميدان الأسطوري للبطولة وهو الصراع العربي الصهيوني، وفي النهاية كان نصيب قرية العمار ومنطقة عين شمس في القاهرة انتماء الفتى لهم، ولكنه أصبح ابن مصر والأمة العربية كلها.
فتح فتى مصر الأسمر الطريق والعيون نحو الطريق الوحيد لأمته، فطريقنا جميعًا ومصيرنا يبدأ من هناك من القدس وفلسطين، ومسالكه تبدأ من القاهرة ودمشق وبغداد واليمن والجزائر، وخليجنا العربي، كل مسالك الأمة العربية تؤدي إلى باحات مسجدنا الأقصى، وفلسطين هي قضية الأمة ومحورها للعبور إلى مستقبلها مهما حاول المطبعون والمتصهينون القدامى والجدد، ومهما طال مشورانا وطريقنا وتعثر فلا طريق غيره، فتحرير الأمة يبدأ من تحرير القدس، وإن شاء الله سيكون لشعب مصر العربي نصيب كبير في هذا التحرير، فعندما تنهض مصر من غفوتها سنرى صحوة هذه الأمة، ولعله قريب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق