خيبات التطبيع من سعد حلاوة إلى محمد صلاح
بغض النظر عن نقص المعلومات وتناقض الروايات بشأن حادثة الحدود المصرية الفلسطينية التي قتل فيها الجندي المصري محمد صلاح 3 جنود إسرائيليين، فإن ما يلفت الانتباه هو حالة الفرح العارم التي عمت ربوع مصر والعالمين العربي والإسلامي، وهو ما يكشف المشاعر الحقيقية تجاه الكيان الصهيوني الذي ظن أنه تمكن من تغيير قناعات الشعوب العربية وتوجهاتها عبر عمليات التطبيع القسرية.
في نوفمبر/تشرين الثاني 1977، زار الرئيس الراحل أنور السادات القدس معلنًا أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، ومدشنًا عهدًا جديدًا للسلام باتفاقية كامب ديفيد، ثم معاهدة السلام مارس/آذار 1979، التي وضعت التطبيع في قلب أهدافها ومساراتها، ورغم مرور 47 عامًا على تلك الزيارة، ورغم المليارات التي أُنفقت لتسويق التطبيع فإن النتيجة بائسة، فبينما كان السادات يستعد لاستقبال أول سفير لإسرائيل في مصر (إلياهو بن إليسار) يوم 26 فبراير/شباط 1980، كان أول رد فعل شعبي من فلاح مصري بسيط هو سعد إدريس حلاوة، الذي وللمفارقة ينتمي إلى المنطقة السكنية نفسها للجندي محمد صلاح (الأول من قرية أجهور، والثاني من كفر العمار المجاورة بمحافظة القليوبية)، حيث احتجز 3 موظفين حكوميين في الوحدة المحلية رهائن للمطالبة بطرد السفير، ولكن أحد قناصة الشرطة قتله بعد رفضه الاستسلام، وظهر تنظيم مصر منتصف الثمانينيات متخصصًا في مطاردة الدبلوماسيين الإسرائيليين وقتلهم، وكانت بطولة الجندي سليمان خاطر الذي قتل عدة إسرائيليين حاولوا اجتياز الحدود المصرية عام 1985، واستشهد في محبسه، وتحوّل إلى أيقونة، وتبعه الجندي أيمن حسن 1990، الذي قتل عدة جنود إسرائيليين، وفي العام ذاته قتل سيد نصير المصري المقيم في أمريكا الحاخام الصهيوني المتطرف مائير كاهانا، واستمرت حالة الرفض الشعبي تعبّر عن نفسها بأشكال خشنة أحيانًا وناعمة أحيانًا حتى اليوم.
العدو ثابت
حتى الآن يفهم المصريون كلمة العدو باعتبارها تشير إلى الكيان الصهيوني فقط، رغم أن القيادة السياسية والعسكرية حاولت تغيير العدو إلى “الإرهاب” بديلًا للكيان، لكن ذلك ظل حبرًا على ورق، لم ينجح في تغيير القناعات الراسخة لدى المصريين مدنيين وعسكريين، حتى وإن ظهر من بينهم مستفيدون ماديًّا بالتطبيع إلا أنهم يظلون استثناءً على القاعدة العريضة الرافضة.
دفع السادات ثمن زيارته للكيان، وتوقيعه معاهدة السلام بعد عامين فقط، كان يظن أنه يُحسن صنعًا، وأن قيادته لنصر أكتوبر تغفر له ما سبق وما لحق من الخطايا، لكن الشعب لم يغفر له محاولته فرض التطبيع مع العدو قبل تحرير فلسطين، واجتهد مبارك من بعده في تحديد مسارات خاصة للتطبيع، واضعًا هذه المهمة بشكل أساسي في عهدة نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة والأمين العام للحزب الوطني الحاكم يوسف والي الذي أشرف على إرسال بعثات من وزارته إلى الكيان بدعاوى تعلم الأساليب الحديثة للزراعة، ويتذكر جيلنا أن هؤلاء المبتعثين كانوا يتخفون من أهلهم وجيرانهم وأصدقائهم ومعارفهم عند العودة تجنبًا لردود أفعالهم الغاضبة التي كانت تصل إلى حد الاعتداء البدني عليهم.
جرت محاولات لاختراق هذا الموقف الشعبي الصلب، قادت بعضها السفارة الإسرائيلية التي كانت تعيش عزلة في مناسباتها الرسمية المختلفة، وإن نجحت بعد الانقلاب في تحقيق اختراق محدود عبر مشاركة بعض النخب السياسية أو الإعلامية في احتفالاتها ومناسباتها، كما جرت محاولات أخرى نخبوية مثل تلك التي قادها الكاتب الصحفي الراحل لطفي الخولي في ما عُرف بمجموعة كوبنهاغن، وهي مجموعة حوارية بين عرب وإسرائيليين لم تسجل نجاحًا يُذكر، وهو ما تكرر مع محاولات الأكاديمي والحقوقي سعد الدين إبراهيم ومركزه “ابن خلدون” التي باءت بالفشل أيضًا.
النقابات ضمير المجتمع
مثلت النقابات المهنية والعمالية ضمير المجتمع المصري الرافض للتطبيع، حيث اتخذت قرارات عبر جمعياتها العمومية بذلك، ووضعت عقوبات لمن يخالف تلك القرارات، صحيح أن البعض اخترقها محتميًا بالسلطة لكنه ظل منبوذًا وسط زملائه، انظر مثلًا إلى حالة الأديب علي سالم مؤلف مسرحية مدرسة المشاغبين، الذي زار إسرائيل متحديًا قرار اتحاد الكتاب، فأصدر الاتحاد قرارًا بشطب عضويته، ورغم حصوله على حكم قضائي ضد الشطب فإن الاتحاد رفض عودته حتى وفاته، وانظر إلى الصحفي الراحل مكرم محمد أحمد وكان نقيبًا للصحفيين، وأراد في إحدى الجمعيات العمومية إعادة النظر في قرار رفض التطبيع مستخدمًا كل مهاراته الكلامية لكنه فشل في مهمته أمام رفض غالبية الصحفيين، وانظر إلى موقف المثقفين من مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب، وانظر إلى المواقف المشرفة للرياضيين المصريين الذين رفضوا اللعب في مواجهة نظراء إسرائيليين، أو الذين احتفلوا بفوزهم بالالتحاف بعلم فلسطين.
حين أتيح للشعب المصري أن يعبّر عن موقفه بحرّية خلال ثورة يناير كانت السفارة الإسرائيلية هدفًا مباشرًا، حيث احتشد المتظاهرون أمامها مطالبين بإغلاقها، وتمكن بعضهم من التسلق إليها واقتحامها، وبعثرة أوراقها، ونزع العلم الإسرائيلي، وقد تدخل الجيش بصعوبة لإنقاذ طاقم السفارة قبل أن يفتك به المتظاهرون، وتم فتح الحدود البرية المصرية الفلسطينية، التي كانت مغلقة معظم الوقت من قبل وعادت إلى الغلق من بعد.
الأهم من كل ما سبق أن الإسرائيليين الذين يزورون مصر سياحًا أو في مهمات أخرى لا يستطيعون حتى الآن كشف هوياتهم الإسرائيلية خلال تحركاتهم في الشوارع والميادين العامة خوفًا من ردود الفعل الشعبية، ولا تزال السياحة الإسرائيلية إلى مصر تتركز في منطقة سيناء الجنوبية تحت حماية أمنية.
خيبات التطبيع
ما حدث من خيبات لمسيرة التطبيع في مصر خلال نحو نصف قرن، تكرر في دول عربية أخرى لحقت مصر في الموجة الثانية للتطبيع عقب اتفاقات أوسلو منتصف التسعينيات، ثم عقب مبادرة السلام العربية، وحتى موجة التطبيع الإبراهيمي الأخيرة لا تزال تقتصر على الأطر الرسمية ربما مع بعض الاستثناءات القليلة التي لن تصمد كثيرًا، وستلحق بحالات الرفض السابقة.
لقد فجّر الشهيد محمد صلاح مخزون المشاعر الوطنية والقومية والإسلامية في لحظة انكسار عربي، حاولت فيها بعض الحكومات فرض التطبيع قسرًا على شعوبها، لكن تلك الحكومات مع حكومة الكيان الصهيوني تعيش الآن حالة الصدمة التي ينبغي أن تتبعها إفاقة وانتباه لمشاعر وقناعات الشعوب الحقيقية التي لا يمكن أن تقبل سلامًا أو تطبيعًا مع الكيان طالما استمر احتلاله لأرض فلسطين، ورفضه إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين عاصمتها القدس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق