الأحد، 11 يونيو 2023

أزمة كوسوفو.. هل تُفَجّرُ البَلْقان؟

  أزمة كوسوفو.. هل تُفَجّرُ البَلْقان؟

أَلِأَنَّ البَلْقانَ شهدت على مدى تاريخها انقسامات وحروبًا أهلية على خلفية تعدديات عرقية وثقافية؛ غدا مصطلح “البلقنة” يُطلَق في علم السياسة على حركات الانقسام وما يرافقها من النزاعات الإثنية والتطهير العرقيّ؟ ربّما كان ذلك صحيحًا، لكنّ المعروف أنّ أولَ مَنْ سمّى شبه الجزيرة المحصورة بين البحر الإدرياتيكي والبحر اليوناني والبحر الأسود وخليج البسفور بالبلقان هم العثمانيون، وهو يعني الجبال المغطاة بالغابات الكثيفة، منطقةٌ تَقْبَع في جنوب شرقي أوربا، ثاويةً في فقرها ونُضوب مواردها، طاويةً على مشكلاتها العرقية والإثنية وخلافاتها الدينية والمذهبية وإرثها التاريخيّ المثقل بالأحقاد، وقد شهدت هذه المنطقة أبشع الجرائم الإنسانية التي ارتكبها الصرب ضد البوسنة المسلمة في المدة من 1992 إلى 1995، ثم ضد كوسوفو بعد ذلك بعامين قبل أن تتدخل القوى الدولية بقيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لوقف الحرب.

كوسوفو جغرافيًّا وتاريخيًّا وجيوسياسيًّا

أمّا الْمُكَوِّن الأكبر للبلقان فهو ذلك الخليط الذي انضوى قسرًا تحت الفيدرالية اليوغسلافية منذ الحرب الثانية، وظلّ يرزح تحت حكم “تيتو” إلى أن تفككت يوغسلافيا بعد نهاية الحرب الباردة؛ لتتمخض عن: صربيا والجبل الأسود، وكرواتيا، والبوسنة، وسلوفينيا، ثم كوسوفو، تلك الرقعة التي تُعَدُّ الأفقر من بين كل هذه الأقاليم، مساحةٌ مغلقة، يَجْثُمُ رابضًا على حدودها الشمالية ذلك الوحش المتربص “صربيا”، بينما تقبع في جنوبها كل من مقدونيا وألبانيا، راضيتين من الدنيا بالأمن الحذِر، يبلغ تعداد سكانها نحو مليونَي نسمة، يعيشون على مساحة لا تزيد على 11 ألف كيلومتر مربع، أكثر من 90% منهم ألبانٌ مسلمون، والباقي أقليات، في ضمنهم ما يقرب من 120 ألف صربيّ، أكثرهم يعيشون في الشمال المتاخم لصربيا، يُمثلون أغلبية بلديات “زفيتشان” و”ليبوسافيك” و”زوبين بوتوك”، وقد خاضت كوسوفو نضالًا ضد صربيا تعرضت خلاله لحرب إبادة وتطهير عرقيّ، حتى انفصلت عام 1999.

أعلنت كوسوفو استقلالها عام 2008، غير أنّ صربيا ما زالت تَعُدُّها جزءًا من أراضيها، وفي عام 2013، وقّعت صربيا وكوسوفو اتفاقية تطبيع العلاقات، لكنّها مع ذلك ترفض أن تعترف بها، وتدعم الأقلية الصربية لتُحْدث القلاقل وتَحُول دون الاستقرار، وليس في كوسوفو مَغْنَمٌ لصربيا، إلا أنّها تُمثل لها بُعدًا جيوسياسيًّا كبيرًا، إضافة إلى إلحاح الذاكرة التاريحية التي تحمل أخبار معركتي: “كوسوفو1″ و”كوسوفو2” بين العثمانيين من جانب والصرب وحلفائهم من جانب، حيث ألحق العثمانيون هزائم موجعة بالصرب، وحيث أدت المعركتان إلى سيطرة العثمانيين على صربيا وباقي دول البلقان لمدة 500 عام، وبعد وفاة تيتو في يونيو 1989، قام الزعيم الصربي المجرم “سلوبودان ميلوشيفيتش” بزيارة كوسوفو، وألقى خطبة عنصريّة، ذكّر فيها الصرب بتلك المعارك، حتى لا ينسوا ما حدث قبل 6 قرون، ولا تزال كوسوفو إلى اليوم تعتز بإسلامها، بها نحو ألف مسجد، منها مساجد تاريخية كمسجد “سنان باشا” في “برزرن”، والمسجد السلطاني في العاصمة “بريشتينا”، إضافة إلى الكتاتيب والمدارس الإسلامية التي تنتشر في أنحاء كوسوفو، وفي عام 1992 أنشئت أول جامعة إسلامية في “بريشتينا”.

الأسباب المباشرة لتجدُّد الأزمة

تلك كانت الجذور البعيدة والأسباب القديمة غير المباشرة للأزمة الحالية، التي يُخشى من تطورها بما يُفجّر منطقة البلقان، بل ربما قد يشمل المنطقة كلها من حيث الأصل، أمّا الأسباب المباشرة فهي أحداث وقعت وتتابعت على وجهةٍ واحدة، بدءًا من مسألة رابطة البلديات الشمالية، ومرورًا بأزمة اللوحات المعدنية، وانتهاءً بمشكلة انتخابات البلدية في الشمال الكوسوفي، أمّا الوجهة الواحدة فهي العمل على زعزعة استقرار كوسوفو والإنقاص من سيادتها؛ تمهيد للانقضاض على مكتسب الاستقلال والانفصال، وأمّا مسألة رابطة البلديات فقد ظهرت ونمت خلال السنين التي أعقبت إعلان الاستقلال إلى اليوم، تستهدف عمل رابطة تضم البلديات الشمالية التي يُشكل الصرب فيها أغلبية، بالمخالفة للدستور وللأعراف السياسية، وأمّا مشكلة اللوحات المعدنية فقد ظهرت من أعوام قليلة، حيث ألغت الحكومة الكوسوفية اللوحات المعدنية الصربية التي كان صرب الشمال الكوسوفي يصرون على تعليقها على سياراتهم اعتزازًا بالهوية الصربية واستهانة بالهوية الوطنية، وأمّا أزمة انتخابات البلديات فقد تفجرت أخيرًا بسبب مقاطعة الصرب للانتخابات في الولايات الشمالية؛ مما أدى إلى ضعف الإقبال عليها واستيلاء شخصيات كوسوفية بالانتخاب على تلك البلديات؛ الأمر الذي أعطى ذريعة للأقليات الصربية للقيام بالتظاهر والشغب، وعلى أثر ذلك تفجرت الأزمة، وبلغت ذروتها مع تأهب الجيش الصربيّ على حدود كوسوفو بأمر وزير الدفاع الصربي “ميلوس فوسيفيش”، وتوجيه من ” ألكسندر فوشيش”.

ما الحلّ؟ وهل ستنشأ الحرب؟

لا يملك أحد الجزم بقيام الحرب أو بعدم قيامها، فعوامل الإيجاب والسلب متوافرة ومتدافعة، فمَن رجّح عدم قيام الحرب اتكأ على أنّ كلا البلدين لا يَعُدُّ الحرب حاليًّا مصلحة راجحة له، فأمّا كوسوفو فبلدٌ فقير ضعيف يعمل على بناء جيشه منذ عام 2018؛ فهو بحاجة إلى السلم ريثما تتهيَّأ ظروفه، وأمّا صربيا فهي بعد نشوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا حريصة كل الحرص على أن تعطي رسائل إيجابية للاتحاد الأوربيّ بأنّها ليست منساقة وراء الأطماع الروسية، ولا سيما أنّ 80% من اقتصادها معتمد على أوربا، وهي لا تزال دولة منهكة بسبب الحروب، ومن رجّح اندلاع الحرب يتكئ على نمو العامل الثقافيّ ذي البعد الجيوسياسيّ، ولا سيما مع صعود الاتجاه العنصريّ اليمينيّ المتطرف لدى الأرثوذكس الصرب، وعلى الرغم من وجاهة الخيار الأول فأرى أنّ الثاني واردٌ بقوة، ولا سيما مع رخاوة الموقف الغربيّ.

ويرى البعض أنّ الحل يكمن في التجاوب مع مشكلة رابطة البلديات الشمالية، باعتمادها على نحو يُرضي الطرفين، ويرون أنّ اتفاقية التطبيع المُوقعة في 2013 تصلح متكأً لذلك، بينما يقف رئيس الوزراء الكوسوفي “ألبين كورتي” موقفًا صلبًا من هذه القضية، ويضع ستة شروط لقبول ذلك، وهو على حقٍّ من وجهة النظر التي تراعي البعد السياديّ، ويرى آخرون -وهو الأوجَه- أنّ الحل يتمثل في إلغاء الحدود بين كوسوفو وألبانيا، وإعلانهما دولة واحدة، وألبانيا دولة مسلمة تحظى بعضوية الاتحاد الأوربيّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق