الأحد، 11 يونيو 2023

الوعيُ القَبْلِيُّ وأثرُهُ في بناء الجيل.. “حازم أبو إسماعيل أنموذجًا”

 الوعيُ القَبْلِيُّ وأثرُهُ في بناء الجيل.. “حازم أبو إسماعيل أنموذجًا”


د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

بعد فوات الأوان لم يختلف أحد ممن وافقه قبل ذلك أو خالفه في أنّه كان على حقٍّ في جميع ما قال وكافّة ما فعل؛ وهذا – لعمر الحق – سببٌ كافٍ لنيل شرف الإمامة، فالإمام قبل أن ينال شرف الإمامة بعلم أو اجتهاد أو حتى تجديد يناله بهذه الخاصّية: أن يكون أمّةً وَحْدَه، والرجل الأمّة هو الذي يتفرد من بين الخلق جميعًا بأمور من الحقِّ يخالف فيها الناس جميعًا ويوافق فيها الحقّ، ذلكم هو فضيلة الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، حفظه الله ونفع الخلق بعلمه وفهمه، وفكّ بالعزّ والمجد أسره وسائر إخوانه.


بمثل هذا تنال الإمامة

لم نجد من الدعاة الإسلاميين – على كثرتهم وزخم دعوتهم – من قرأ الثورة قراءة صحيحة من اللحظة الأولى مثلما قرأها الإمام، وَحْدَهُ الذي التقط من اللحظة الأولى خيطها، ونظم فيه بإتقان وإحسان كل المفردات التي كانت تمثل للدعوة الإسلامية ثوابتَها الكبرى ومحكماتها العظمى، وحده الذي لم يتلعثم في فهمها، ولم يتردد في دعمها، ولم يتوقف في التجاوب مع أصدائها؛ لذلك لم يقع بينه وبين رموزها من الشباب بكافّة أطيافهم شيء من سوء الفهم أو عسر الهضم؛ على الرغم من صراحته الصارمة، وعلى الرغم كذلك من بُعْدِ الشُّقَّة بين منطلقاته ومنطلقات الكثيرين منهم وغاياته وغايات الكثيرين منهم.

 وحده من بين جميع الإسلاميين من رأى الاستمرار في الميادين بعد سقوط مبارك، ومواصلة المسار الثوريّ حتى يتم للثورة نصرها وتمكنها بسقوط قلاع النظام الأكثر عنادًا ومكابرة، وحده من بينهم جميعًا الذي رفض الهتاف المخاتل: “الجيش والشعب إيد واحدة”، ورآه خدعة لا تنطلي إلا على المغفلين، وحده الذي كان يرى الجلوس مع المجلس العسكريّ بمثابة وقوع المحارب في فخ عدوه؛ لأنّه وحده الذي كان يدرك إلى أي حد بلغ هؤلاء العسكر في الإجرام والظلم والخيانة والعمالة؛ لذلك سرعان ما انْبَتَّتْ العلاقة بينهم جميعًا وبين الشارع الثائر، وبقي هو وحده صامدًا لا يلين، ثابتًا لا يحيد ولا يميد.


 فلمّا اختار الجميعُ المسارَ السياسيَّ وأعرضوا عن المسار الثوريّ؛ دَعَمَهم من الميدان، بالمشاركة مع الثوار في مسيرتهم؛ بهدف الضغط على المجلس العسكريّ؛ لينجز لأصحاب المسار السياسيّ ما وعدهم به، ثمّ لمّا تخاذلوا عن تولي قيادة البلاد تَصَدَّر لها، وترشح للرئاسة بشجاعة، واعتبرها لحظة فارقة، فلمّا مالوا إليها وأُقْصِيَ عنها وقف داعمًا لهم بكل إخلاص وتفان، مفوضًا الأمر لله وحده، وفي الأخير حذرهم وهُمْ في الحكم من العسكر، وبخاصّة من ذلك السيسيّ الدعيّ؛ فلم يكترثوا، فلمّا وقع المحذور وقف معهم ونسي لهم جحودهم وكنودهم، ثم لم يلْبَثْ أن دخل معهم فيما أصابهم من الضراء.


الخلفيات الداعمة

لا يمكن أن يكون الوعي البَعْديُّ مصدر إلهام للجيل؛ لأنّه – وإنْ كان في ذاته يمثل خبرةً مضافة – لا يحظى بالموثوقية التي يسعد باحتكارها الوعي القَبْليِّ، وهذا ما يدعونا إلى إحياء فقه الإمام أبو إسماعيل، ويدعونا من باب أولى إلى معرفة خلفيات هذا الوعي، فإنّ صناعة الوعي وبناء الجيل وبعث الهمّة يتوقف على معرفة الأسباب التي تقف وراء ذلك الوعي البنَّاء، والانطلاق منها، فلا يكفي للتجديد أن تأخذ عن الفقيه علمه، حتى تأخذ منه آليات صناعة الفقه والفهم والوعي.

 يأتي الإخلاص والتجرد والخروج من الحسابات الشخصية والحزبية الضيقة المعقدة إلى آفاق النظر في المصالح العليا للإسلام والمسلمين، يأتي على رأس العوامل التي بها يستقيم الرأي ويصح القرار ويسلم الموقف ويتحقق النضج وينمو الوعي ويُسَدَّد الاجتهاد، وإذا كان هناك ما يمكن أن يُتهم به كثير ممن تصدوا وتصدروا في تلك الأثناء فإنّ أولَهُ وأكبرَهُ وأهمَّهُ تلك الحسابات المعقدة الضيقة، التي تٌقدم وتُعلي مصلحة الجماعة أو الحزب على مصلحة الأمّة، والتي تختلط فيها وتمتزج المصالح الشخصية بالمصالح الحزبية بما يصعب ويشق فصل بعضها عن بعض، وإنّه لمن العزيز النادر بل ربما صار في أيامنا من غير الممكن أن ينجو مكون من المكونات من هذه الآفة التي نراها أخطر ما يهدد المشروع الإسلاميّ.

 ثم يأتي وضوح الرؤية وبروز الغاية وسلامة المنطلق؛ لتشكل – باجتماعها وبانضمام كثير من الخطوط العريضة الكلية إليها – مشروعًا للأمّة واضحَ المعالم، من حازه فقد استحوذ على الرشد واحتكر الحكمة وغدا إدراكُ المسالك والمهالك وإبصار العقباتُ والتحديات ملكًا حصريًّا له؛ فما قيمة أمّة من الناس – مهما كثرت وعلا ضجيجها – لا رؤيةَ لها ولا مشروع، لا رؤية صحيحة ولا مشروع واضح ينبثق عن رؤيةٍ صحيحة، فإذا عرفت أنّ اضطراب الرؤية وافتقاد المشروع واختلال البوصلة كان لجميع الجماعات والأحزاب الإسلامية دأبًا ملازمًا؛ تأكَّدَ لك: كمْ كان الإمام أبو إسماعيل فذًّا وعبقريًّا!

 أمّا الجمع بين فقه الشرع وفهم الواقع، مع التوازن في التعامل مع الواقع؛ بلا تجاهل لمعطيات هذا الواقع ومتطلباته، ولا انسحاق تحت ضغطه وإملاءاته، وأمّا الشجاعة في غير تهور ولا نزق، والأناة في غير جبن ولا خور، وأمّا القراءة الواعية للتاريخ ورفض الانصياع لمتلازمة خضوع الحاضر لقوانين الماضي، وأمّا السلامة من الهزيمة النفسية والخلاص من داء الانبهار بما عليه المجرمون والفجار من زينة السلطان، وأمّا رباطة الجأش وثبات القلب وسكون الضمير، وأمّا التربية في محاضن العلم والجهاد والنضال المشرف وفي بيوتات الأكابر الشرفاء؛ فكل ذلك كان الإمام أسبق فيه من غيره.


النتيجة والدرس المستفاد

والنتيجة هي انفراد بإحراز الصواب، وفقه عريض في التعامل مع الغربة التي فرضت نفسها على الإمام، وعودة الجميع إلى الإقرار له بالسبق والتفوق، وإلى التسليم له بالإمامة، ولكن لأنّ الإدراك جاء لاحقًا بعد فوات الأوان فإنّ فائدته سوف تتراخى إلى أن يتعلم الجيل منه كيف يكتسبون وعيًا قبليًا بعد أن ظفروا بعد لأي بالوعد البعديّ، وذلكم هو الدرس المستفاد، والله المستعان على كل حال، 

نسأل الله للشيخ وإخوانه المأسورين معه النجاة والفكاك من الأسر، وأن ينفع الله الإسلام والمسلمين بهم وبجهادهم، وأن يؤلف بينهم، وأن يؤلف بينهم وبين الأجيال اللاحقة، والحمد لله رب العالمين. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق