الأحد، 11 يونيو 2023

بُعْد شخصي لقضية عامة

بُعْد شخصي لقضية عامة
جعفر عباس 

يوم السبت الماضي، الموافق 3 حزيران/ يونيو، ثارت أحزان الملايين في السودان مجددا، لأنه الذكرى الرابعة للمجزرة التي نفذها المجلس العسكري الانتقالي، الذي تولى مهام رئاسة الدولة بعد سقوط حكومة عمر البشير، بحق نحو 180 من الشباب المنادين بالحكم المدني الديمقراطي، وكان ذلك المجلس برئاسة عبد الفتاح البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة السوداني الحالي، وكان محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع نائبا له في المجلسين، العسكري والسيادي، وها هما اليوم في خندقين متضادين، يصبان الجحيم على رؤوس ساكني العاصمة السودانية، في سعي كل منهما للقضاء على الآخر؛ فالبرهان يقول إن قوات الدعم السريع مليشيا لابد من استئصالها كي لا تظل موازية للجيش الوطني، بينما يقول حميدتي إنه يريد إلقاء القبض على البرهان لأنه "انقلابي"، يرفض نقل الحكم إلى المدنيين.

في ذلك السبت (3 حزيران يونيو الجاري)، وصلت الحرب التي تدور رحاها في العاصمة السودانية إلى عقر داري، ولم يحدث ذلك مجازيا بل حرفيا، بمعنى أن بيتي في مدينة الخرطوم بحري تعرض للغزو والاجتياح والاحتلال، بعد أن قام نفر من قوات الدعم السريع بالدخول فيه بعد كسر الباب الخارجي، وبذلك خضعت كل بيوت الحي مُكْرهة لسلطة تلك القوات، لأن جميع جيراني إما تعرضوا للطرد من بيوتهم، أو غادروها طوعا طلبا للسلامة، بعد تفشي جنود حميدتي في كافة مفاصل الضاحية التي تضم بيوتنا.

كان بيتي ذاك ثمرة الاغتراب عن الوطن لأكثر من ثلاثين سنة، ولم أكن أقيم فيه إلا لشهر وبعض الشهر كل سنة، ثم أحكم إغلاقه رافضا عروضا مغرية لتأجيره مفروشا خلال فترات غيابي عنه، لأنني لم أكن مرتاحا لفكرة وجود غريب في بيتي ينام ويجلس على أثاث اقتنيته ليستخدمه أفراد عائلتي ومن يزوروننا من الأقارب والأحباب، ولك أن تتخيل شعوري بعد احتلال و"انتهاك" الجنجويد (جماعة حميدتي) للبيت: لم أصب بالحزن، بل فقط بـ "المهانة"، فكيف يدخل بيتي دون إذن من أي من أفراد أسرتي، أشخاص لا تربطني بهم قرابة دم أو رحم أو مودة؟

أكثر من 99% من أهل السودان يعتبرون قوات الدعم السريع عصابات إجرامية وبنادق مأجورة، تديرها عائلة حميدتي لتعزيز مصالحها الاقتصادية وطموحات حميدتي وأخوه عبد الرحيم السياسية..
يقول حميدتي إن جماعته يخوضون حربا ضد القوات المسلحة السودانية، لأنهم ينشدون الحكم المدني الديمقراطي وإبعاد العسكر عن السلطة، ولعله يحسب أن للمواطن السوداني ذاكرة سميكة، ونسي التنكيل والتقتيل الذي مارسه هو وجنجويده بأهل دافور ما قبل عام 2019، ثم بالمدنيين في مختلف مدن السودان خلال السنوات الأربع الماضية، ولا يكلف حميدتي نفسه الإجابة على السؤال: بأي مشيئةٍ أعطى نفسه حق الوصاية على أنصار الحكم المدني بينما هو عسكري برتبة فريق بـ "الأوانطة"؟

والبرهان أيضا يراهن على تفشي متلازمة الزهايمر في السودان وبائيا، ولهذا يبرر الحرب ضد قوات الدعم السريع لكونها مليشيا، ويستنكر عدم إدانة أي دولة لها كمليشيا متمردة، بينما وصف تلك القوات بالمتمردة قد ينفي عنها صفة مليشيا، لأن التمرد يأتي من الفرع ضد الأصل، وقد ظل البرهان يعتلي المنابر منذ عام 2019 ليؤكد أن قوات الدعم السريع جزء أصيل من القوات المسلحة وظهير لها.

أكثر من 99% من أهل السودان يعتبرون قوات الدعم السريع عصابات إجرامية وبنادق مأجورة، تديرها عائلة حميدتي لتعزيز مصالحها الاقتصادية وطموحات حميدتي وأخيه عبد الرحيم السياسية، ولو قال العوام عن تلك القوات إنها مليشيا لما تجاسر أحد على تكذيبهم، ولكن أن يقولها البرهان فتلك جرأة على الحق (وليس في الحق)، فكيف يقول عنها إنها مليشيا وقائدها وبقرار منه نائبه في رئاسة الدولة، ومقراتها خلال السنوات الماضية ثكنات عسكرية تتبع للقوات المسلحة الرسمية؟

أنعم البرهان على حميدتي برتبة فريق أول، وكان عضوا مجلس السيادة السوداني الفريق ياسر العطا والفريق إبراهيم جابر يقفان له "تعظيم سلام" كلما مر بهما، وكان ذلك ما يفعله أيضا آلاف الضباط في الجيش النظامي، ثم إن قوات الدعم السريع تلك هي التي كان مناطا بها حراسة وحماية المرافق الاستراتيجية في الخرطوم، ومحيطها الجغرافي والإداري بأمر البرهان، الذي زود حميدتي بجواز سفر ديبلوماسي وأوفده عديد المرات إلى دول الجوار وتركيا وروسيا، لإبرام الاتفاقيات الرسمية، بل وأسند إليه ملف تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فكان أن زار عبد الرحيم دقلو حامل رتبة فريق، إسرائيل، وكان أن زودت إسرائيل حميدتي بأجهزة تجسس وتنصت لا تملك أي جهة عسكرية أو مدنية في السودان نظيرا لها.

ولماذا وهي مليشيا تخضع لسلطان عائلة واحدة كان نحو أربعمائة من ضباط الجيش النظامي منتدبين للعمل معها وفيها؟ ويتقاضى أفرادها رواتبهم من الخزينة العامة (فوق ما يتلقونه من شركات آل دقلو)؟ وتتمتع بحيازة 30% من أصول شركات الجيش؟ وسكت البرهان عنها عندما تواطأت مع مرتزقة فاغنر الروسية لتعمل في مجال تهريب الذهب؟ ومن الذي سمح لها بإنشاء مفوضية للأراضي والشروع في الاستيلاء على مساحات شاسعة في مختلف أقاليم السودان؟ وكيف يسمح رئيس مجلس السيادة لنائبه (حميدتي) بابتعاث جنود تلك المليشيا الى إثيوبيا وروسيا للالتحاق بدورات تدريبية؟ ومن غير البرهان سكت على قيام ما يسميه بالمليشيا بإنشاء إدارة طبية وهيئة إمداد واستيراد خاصة بها؟ وهل كان البرهان غافلا عن تجنيس حميدتي ومعاونيه للآلاف من أفارقة جنوب الصحراء.

القضية المركزية التي تهم أهل السودان هي: لماذا اشتعلت هذه الحرب الدائرة الآن في بلادهم؟ وكيف سيكون الحال في حال انتصار شهاب الدين أو أخيه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق