إذا أردت أن تتعرّف على حجم التطور المذهل في التجربة السياسية والديمقراطية في مصر خلال العشرية الماضية، ما عليك سوى إنفاق دقائق من وقتك للتعرف على الخطاب السياسي لحزب من أقصى اليمين الليبرالي، أو هكذا يُفترض، وآخر من أقصى اليسار الاشتراكي التقدّمي.
من حزب الوفد اليميني الليبرالي، انبعث صوت رئيسه الأسبوع الماضي، فاستيقظ الناس على لون جديد من الكوميديا السياسية، لمناسبة الحديث عن انتخاباتٍ رئاسيةٍ يتصاعد الحديث بشأنها. رئيس حزب الوفد المعارض (ليس هناك خطأ طباعي) السيد عبد السند يمامة أعلن الآتي: الحزب سمّاه مرشّحًا رئاسيًا، في مشهد انتخابات سيكون جدّيًا، هكذا يجزم، وأنه يقبل أن يكون ظلًا للمشهد السياسي. ثم أضاف، في مداخلة تلفزيونية، "طلبت في أكثر من مناسبة وطنية تعديل الدستور ليُوضع اسم الرئيس عبدالفتاح السيسي بجانب محمد علي وسعد زغلول ومصطفى النحاس، لأنه يستحق نظرا إلى موقفه المنقذ لمصر في ثورة 30 يونيو".
لا يضع الأستاذ يمامة بيضَه كله في سلّة واحدة، إذ من ناحية يضع السيسي في مرتبة الزعماء التاريخيين مثل سعد زغلول، وفي الناحية الأخرى، يلفت إلى أن لدى الحزب مآخذ على السياسات الاقتصادية التي جرى اتباعها في الوقت الحالي، لكنه لم يشأ أن يحدّد طبيعة هذه المآخذ.
يبدو السيد يمامة، بهذه التصريحات، حالة حزبية وسياسية متطوّرة للغاية، من حيث الشكل، عن حالة العام 2005 عندما هرع حزبيون وسياسيون ظرفاء إلى ترشيح أنفسهم منافسين حسني مبارك، ليس من أجل الفوز، وإنما لإظهار عظمة السيد الرئيس وكفاءته وجدارته بحكم البلاد، ومن هؤلاء كان الحاج أحمد الصبّاحي، بطربوشه الأحمر الفاقع ونكاته السياسية الأكثر احمرارًا وفقاعًة.
أكّد الحاج الصبّاحي في ذلك الوقت أنه لم يرشّح نفسه إلا لتدعيم الديمقراطية وإثراء التجربة، مشدّدًا على أنه حال فوزه سيتنازل عن السلطة للرئيس مبارك، الذي رآه الأجدر بقيادة البلاد، باعتباره زعيمًا تاريخيًا أيضًا. كان الشيخ الصبّاحي يطرح نفسه خبيرًا في قراءة الكفّ وتفسير الأحلام ، ولم يزعم إنه يرقد فوق تل من القيم الديمقراطية والليبرالية الموروثة، كما هو الحال مع يمامة حزب الوفد الجديد، فالأول كان صاحب أحلام بسيطة للغاية منذ زمن عبد الناصر، الذي اقترح فيه إنتاج نوعٍ جديد من الشاي المصري لمواجهة الأزمة الاقتصادية بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967 من خلال دعوة المصريين إلى الاحتفاظ بتفل الشاي بعد غليِه لإعادة معالجته وتعبئته وطرحه للاستهلاك مجدّدًا.
ما يفعله السيد يمامة الوفدي في 2023 مع السياسة، هو ذاته ما فعله الشيخ الصبّاحي في ستينيات القرن الماضي مع الشاي، إذ يعيد رئيس حزب الوفد الآن إنتاج الخطاب السياسي للحاج الصبّاحي، صاحب الخطوة والطربوش، في مشهد إنتخابات 2005 ضد حسني مبارك: المنافسة من أجل إظهار جدارة السيد الرئيس بالاستمرار في السلطة.
لو اتّجهت يسارًا، جهة حزب التجمع التقدّمي اليساري، ستجد خلطة أخرى مثيرة من السياسة وتفل الشاي المغلي، يعلن عنها رئيس الحزب، سيد عبد العال، النائب البرلماني المعيّن بمنحة من الجنرال السيسي.
لم يرشّح عبد العال نفسه، ولم يعلن أن حزبه قرّر أن يسمّي منافسًا رئاسيًا، لكنه يشتبك مع مسألة الانتخابات بطريقةٍ مختلفة، إذ يستهدف كل من يفكّر في منافسة الجنرال انتخابيًا، فيشن حملة على الموصوفة بأنها "الحركة المدنية"، لأنها عقدت اجتماعًا مع النائب السابق عن حزب الكرامة أحمد طنطاوي أثار قلق حزب التجمّع ورئيسه.
يقول عبد العال إنه يشعر بالقلق، بعد أنباء اجتماع قادة الحركة المدنية مع طنطاوي الذي كشف عن نيته، حال فوزه، إعادة جماعة الإخوان المسلمين إلى المشهد السياسي، لذا أصدر بيانًا باسم حزب التجمّع أكد من خلاله "موقفه الثابت والتاريخي برفض وجود الجماعة الإرهابية بأي صورة من الصور".
اللطيف أن رئيس حزب التجمّع عضو مؤسّس ومشارك فيما تسمّى الحركة المدنية الديمقراطية، التي يقول إنه تردّد أنها عقدت اجتماعًا، وهذا يعني احتمالًا من ثلاثة: أن رئيس حزب التجمّع على قطيعة مع الحركة المدنية، لأنه، ربما، لا يراها مدنيّة بالقدر الكافي .. أو أن الحركة لا تثق في مدنيّة رئيس حزب التجمّع، ولذا تعقد اجتماعاتها سرًا من دون حضوره. والاحتمال الثالث أن جهةً ما التقطت ما جرى في اجتماع الحركة والنائب، وسرّبته لرئيس الحزب اليساري التقدّمي الوحدوي المعارض، وأوعزت إليه أن يكشف المستور، دفاعًا عن أمن الوطن وأمانه واستقراره، وقطع الطريق على أي مرشّح قد يضايق صاحب السلطة.
يضيف عبد العال هنا دليلًا آخر على التطوّر الديمقراطي والسياسي الرهيب في مصر ما بعد 2013، إذ يقدّم نسخة يسارية أكثر حداثة وحماسة في خطابها الأمني، من نسخة تجمّع رفعت السعيد، في زمن حسني مبارك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق