من يؤرخ عن الجوادي
المستشار / وليد شرابي
هناك بعض الشخصيات نلتقي بهم في حياتنا - وهم قلة - لكن بمجرد أن نبدأ في التعامل معهم والاستماع إليهم ونراقب مواقفهم ندرك أن هؤلاء من عظماء التاريخ حتى إذا ما فارق أحدهم الحياة نشعر بأن الكتابة عنهم وسرد سيرتهم قد أضحت ضرورة ومسؤولية حتى تجد الأجيال القادمة من يمكنها أن تقتدي به فلا يفقدون البوصلة ،ولا يغيب عن أعينهم الهدف .
لكن هناك إشكالية كبيرة حين يكون أحد هؤلاء العظماء اللذين غابوا عنا هو المؤرخ الابرز في هذا العصر ،وهو كما عرف عنه أبو التاريخ هنا تكون المسؤولية أكبر والمهمة أصعب لأن المطلوب في هذه الحالة أن يكتب عنه بنفس الدقة التي كان يكتب بها ،وروعة أدبه ،ورقة أسلوبه ،ووضوح فكرته في نقله هو عن الآخرين.
خصصت مقالي هذا للحديث عن أحد هؤلاء العظماء اللذين غابوا عنا وهو الدكتور محمد الجوادي رحمه الله مقتطفات بسيطة من حياته أنقللها للناس لعل الكثير لا يعرف شيئا عنها .
* الجوادي قبل إنقلاب العسكر في ٢٠١٣
في نهاية عام ٢٠١٢ بدأ عدد من أنظمة الحكم في دول خليجية السعى إلى إسقاط الرئيس محمد مرسي وإكتملت لدى أجهزتهم الأمنية والاستخباراتية الرؤية في تنفيذ ذلك المخطط تحديدا في شهر ديسمبر ٢٠١٢ وكان المدخل لتنفيذ هذا المخطط هو استقطاب ( أو شراء ) أكبر عدد من الرموز المصرية لإشعال الجبهة الداخلية وتأليب الرأي العام ضد رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي ونظام حكمه الجديد فكانت الفئات المصرية التي استهدفتها تلك الدول لتنفيذ ذلك المخطط هم السياسيين والإعلاميين والفنانين والقضاة والمثقفين وأصحاب الرأي .
وتحديدا في شهر ديسمبر عام ٢٠١٢ عقد في دولة الإمارات المزاد - الغير علني - لتلك الفئات من المصريين ليبيعوا وطنهم ،وسافر إلى هناك أعداد كبيرة من تلك الفئات ضمت مئات الأشخاص لبلورة فكرة واحدة وهي إسقاط النظام ،وفتحت دولة الإمارات أبواب خزائنها امام هؤلاء الخونة لمدة شهرين كاملين هما شهرا ديسمبر ٢٠١٢ ،وشهر يناير ٢٠١٣ كانت الامارات خلال هذين الشهرين مرتعا لكل قواد في زي سياسي ،وكل مرتزق في زي إعلامي ،وكل عميل في زي فنان ،وكل ساقط في زي مثقف ،وكل خائن في زي قاضي فحصل العملاء على ما أرادوا من أموال ،ونفذوا المخطط بدقة كما أرادت تلك الأنظمة الخليجية .
بالقطع كان محمد الجوادي من الطبقة الأولى المستهدفة بالرشوة الخليجية لإسقاط الوطن لعدة أسباب منها على سبيل المثال لا الحصر ( ثقافته - تأثيره - إنتشاره - قوة حجته - منطق حديثه - حب الناس له - روعة أسلوبه الخ .. الخ ) لكن الفارس النبيل كان له رأي أخر صدم جميع الأعداء في الخارج والخونة في الداخل بقوته في الحق ،وعدم السقوط في وحل الخيانة الذي سقط فيه المئات من المصريين اللذين باعوا ضمائرهم على أعتاب مكاتب حكام وأمراء الخليج فدافع عن النظام الحاكم في مصر آنذاك بكل قوته ،وفضح المخطط محذرا من انقلاب عسكري قادم يتم الاعداد له بدقة ،ولم يقتصر دفاعه عن - حبيبه - الرئيس محمد مرسي بل كاد جبهة الانقاذ ( عفوا أقصد جبهة الانقلاب ) بكل أقزامهم ،وذلك بقوة دفاعه عن جماعة الإخوان المسلمين أكثر من الاخوان أنفسهم متمسكا بحق الجماعة في أن تتمكن من الحكم بعدما منحها الشعب ثقته فاختار منها رئيسا شرعيا لمصر ،وخصها بالأغلبية البرلمانية الكبيرة ،وظل هكذا يصدع بكلمة الحق حتى وقع الانقلاب الدموي .
* الجوادي بعد الانقلاب :
أغلقت كل نفواذ التعبير عن الرأي داخل مصر بعد إنقلاب العسكر في يوليو ٢٠١٣ فكانت وجهته إلى قطر حيث وفرت المناخ الامن للحديث والتعبير عن الرأي دون قيد أو شرط على أحد، ،وهناك تعرفت على المرحوم الدكتور محمد الجوادي ،وكثيرا ما كنا نصلي سويا صلاة الجمعة حيث كان يجمعنا أحد الأصدقاء الأعزاء المصريين المقيمين في قطر فكنا نقضي سويا الساعات خلال يوم الجمعة في الكثير من الأسابيع.
كان الجوادي شديد الاعجاب بالرئيس الشهيد محمد مرسي مندهشا من صلابته في الحق ،وصموده الأسطوري في وجه العسكر .
كان للجوادي يقين في زوال دولة العسكر وحكمها إلى الأبد لكن كان لديه رؤية خاصة في الخطر القادم بعد زوال دولة العسكر فمع كثرة المظالم التي سببها حكم العسكر الفاشي والمستبد سترتفع الآمال لدى جماهير الشعب فيما يمكن تحقيقه مع اول حركة تغيير ،وهذه الآمال الكبيرة والمتدفقة كافية لان تقطع الطريق على أي حركة تغيير إصلاحي قادم بل إن الجماهير حين تثور سيحركها طوفان الآمال المنعقدة مع رحيل حكم العسكر وحينها قد تدمر هذه الجماهير مصالحها ذاتيا بأيديها ،و السيسي يدرك ذلك جيدا لذلك يحذر دائما من الخراب الذي سيحدث إذا رحل هو !!!
لذلك كان الجوادي ( رحمه الله ) يرى أنه يجب أن يكون الهدف الأول والأسمى لأي نظام سيتم تشكيله بعد زوال حكم العسكر هو الحفاظ على نفسه بالبقاء في السلطة بأي وسيلة ممكنه حتى لو تأخر الصلاح المأمول بعض الشئ ،وهذا العمل سيمثل حينها قمة الوفاء لمصر وللثورة ولمصالح الشعب لأن ترك الأمور لانفعالات الجموع الهادرة ،وإرتفاع توقعات الحشود الشعبية ،وسوء تقدير الجماهير المتدفقة سيقضي على أي أمل في الإصلاح المأمول ،وسيكون نقطة الانطلاق لعودة الخونة إلى الحكم من جديد .
لذلك فإن معركة الوعي يجب أن تشمل أيضا وعي الجماهير في الحفاظ على النبتة الوليدة من أن تموت قبل أن تثمر الشجرة ،وأن ما بين غرس النبته وطرح الشجرة فترة من الزمن يجب أن يتحملها المزارع وصاحب الأرض .
عزيزي القارئ هذا كان جزءا بسيطا من رؤية المرحوم الدكتور محمد الجوادي فيما يجب أن يكون عليه الحال فور سقوط حكم العسكر وزوال دولة الانقلاب .
الجوادي قبل الوفاة ب ٧٢ ساعة :
اخذتنا الحياة وبعدت بيننا الاماكن والبلاد لكن قبل الوفاة بثلاثة أيام تقريبا كان الصديق العزيز والقاضي الجليل المستشار الدكتور أيمن الورداني في زيارة للأستاذ الكبير الجوادي وكان الرجل على فراش الموت ،وقد نقل لي المستشار أيمن الورداني تفاصيل هذا اللقاء .
ولعل أشد ما أثر في نفسي من هذا اللقاء أن المرحوم الدكتور محمد الجوادي خصني بالسؤال عني وهو في هذه الحالة حيث لم يكن يحرك أي شئ في جسده إلا رأسه يمينا ويسارا والأسلاك الطيبة وخراطيم العلاج متصلة بأجزاء كثيرة من جسده فكان سؤاله عني حينها أمرا عزيزا على نفسي كبيرا في قلبي .
لكن اللقاء بشكل عام كان ثريا كعادة كل اللقاءات مع د . الجوادي فكان حديثه عبارة عن سيل متدفق من المعلومات والأحداث التاريخية والرؤية للمستقبل .
فمثلا تحدث الرجل - في أحد المواضيع - عن كيفية إصلاح القضاء ؟
وكيفية تشكيل قضاء مصري نزيه يتولى محاكمة المفسدين دون أن يكون لهؤلاء القضاة أي إنتماء لمؤسسات الفساد .
كيف سيتم اختيار النائب العام بعد إسقاط الانقلاب ؟
مصير القضاة المعينين في ظل الانقلاب العسكري.
وإستراتيجية العمل القضائي خلال سنوات ما بعد الانقلاب إلى أن يستقر الحكم الوليد ،وتعود السيادة للشعب من جديد .
و...
و...
و...
ومع كل موضوع يضع رؤيته ويذكر أسماء محددة ،وتفاصيل دقيقة ،وينسج خيطا دقيقا بين ما يطرحه من رؤية وبين أحداث وقعت في التاريخ القريب والبعيد .
انتهى لقاء الدكتور محمد الجوادي مع المستشار الدكتور أيمن الورداني فسلم عليه المستشار أيمن وكأنه يشعر انه ليس مجرد سلام لكنه وداع ما قبيل الرحيل ،وقبل خروجه من باب الغرفة قال له الدكتور الجوادي (استنه قبل ما تمشي إدعي لي دعاء الميت ... اقصد دعاء المريض) هكذا قالها الدكتور الجوادي تحديدا .
فدعا له المستشار الدكتور أيمن الورداني ثم غادر وكله أسى وحزن وتوقع بأن أجل الرجل قد اقترب ،وأن أبو التاريخ يغلق الان صفحات حياته ،وأن ساعة الرحيل قد حان موعدها .
رحل الحبيب أبو التاريخ لكن ترك لنا مسؤولية كبيرة فمن يحمل الراية التي كان يحملها ،ومن يؤرخ للأجيال القادمة قصة حياة وروعة مواقف أبو التاريخ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق