الجندي المصري وأوهام السلام
حالة الرعب التي يعيشها الإسرائيليون بعد قتل أربعة من الجنود الصهاينة بيد الجندي المصري محمد صلاح تكشف هشاشة العسكرية الإسرائيلية، التي تعيش على تصدير صورة زائفة عن قوة الجيش الصهيوني؛ فالجنود يعيشون حياة مختلطة وكأنهم في منتجعات ترفيهية ماجنة، لا صلة لها بروح الجندية والخشونة، ويحتاجون إلى من يحميهم.
ما فعله محمد صلاح يشبه الزلزال الذي هدم كل ما تم بناؤه من تطبيع وتعاون وصل إلى مستويات غير مسبوقة في العلاقات مع الحكومات العربية، وظن الزعماء المتطرفون الذين يشكلون الحكومة الإسرائيلية الحالية أن العرب قد استسلموا ورضخوا، وأن الفرصة مواتية لهدم المسجد الأقصى لبناء هيكل سليمان المزعوم!
عندما يرقص إيتمار بن غفير والمستوطنون في ساحة الحرم القدسي، وعندما يعقد بنيامين نتانياهو اجتماعا للحكومة الإسرائيلية في نفق تحت الأقصى، فهم لا يعلمون أنهم يشعلون نارا في صدور المسلمين لن يستطيعوا إخمادها، وهم بتعصبهم الأعمى وأطماعهم يسيرون في طريق التصعيد في معركة ستتجاوز حدود فلسطين المحتلة.
عبر الإسرائيليون عن انزعاجهم من حالة الاحتفاء والاحتفال بالجندي المصري على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان صادما لهم وصفه بأنه شهيد وبطل في مصر والدول العربية، فلم يتوقعوا أن تظل الشعوب كارهة لهم، وظنوا أن الشعوب تم تدجينها وأن المقاومة انتهت، وأن العلو الصهيوني لم يعد أمامه عوائق.
الرواية الإسرائيلية
رغم الاختلاف في الروايتين المصرية والإسرائيلية حول العملية، فإنهما في صالح الجندي المصري، وتشيران إلى أنه بطل وشهيد؛ فملخص الرواية المصرية أن محمد صلاح كان يطارد مهربي المخدرات وأنه عبر الحدود خلفهم حتى استشهد، أي أنه قام بدوره وأدى واجبه ويستحق التكريم.
وملخص الرواية الإسرائيلية أن محمد صلاح دخل من ممر الطوارئ، وسار مسافة طويلة وقتل الجندي والجندية، ثم انتظر ساعات حتى قدوم وحدة أخرى فقتل جنديا وأصاب اثنين قبل أن يتمكنوا من قتله، وهذه الرواية أيضا تقنع الشباب المصري والعربي بأنه بطل وشهيد مهما حاولوا تشويهه.
كعادتهم يسعى الصهاينة لتوظيف مثل هذه العمليات لصالح أجندتهم، وإبعاد الأنظار عن الحقيقة التي يعرفها كل من يتابع الشأن الفلسطيني، وبدلا من السؤال عن الدوافع التي جعلت الشاب المصري يقدم على هذا العمل ويضحي بنفسه بروح استشهادية، راحوا يتهمونه بالإرهاب!
ولأنهم في حالة ارتباك وعدم توازن كانت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين هي التي رسمت الصورة الإيجابية للبطل المصري، فهم الذين نشروا اسمه وصوره وتفاصيل خطته ونتيجة عمله الذي يتسم بالجسارة والإقدام رغم ضعف تسليحه ووجوده بمفرده، فجلعوا ما جرى وكأنه مشهد فيديو يراه القاصي والداني.
هل المصحف دليل إدانة؟!
قالوا إنه كان يحمل مصحفا للإيحاء بأنه إرهابي، وهم بهذا يظهرون العداء لكل المسلمين، لأن كل مسلم يحمل مصحفا، ومجرد طرح هذا الكلام لإدانة محمد صلاح نوع من الحماقة والغباء، فإعلان الحرب على حملة المصاحف يساهم في عزلهم هم وليس عزل المسلمين، علاوة على أنهم يحرجون حلفاءهم من المسلمين ومن يجالسونهم ويتعاملون معهم.
محمد صلاح شاب مصري لم تفلح كل أساليب الدعاية والحملات الإعلامية في إقناعه بأن الإسرائيليين أصدقاء، وأنهم يحبون السلام، فهو يسمع ويشاهد ما يتعرض له الفلسطينيون كل يوم من حصار واضطهاد وقتل، ويرى اقتحام المسجد الأقصى وضرب المقدسيين داخل الحرم بكل غطرسة وعدوانية، وربما رأى بنفسه الممارسات اللاأخلاقية للجنود والمجندات في الوحدات المختلطة على الحدود.
محمد صلاح كغيره من الشباب العربي والمسلم يرى مسيرات الأعلام وحملات الزحف الصهيوني على المسجد الأقصى بحماية الجنود المسلحين، وقصف المصلين بالقنابل الخانقة وتحطيم الأبواب من دون مراعاة لمكانة قبلة المسلمين الأولى، والاستهانة بمشاعر المسلمين في العالم.
رغم كل ما يجري في القدس يسألون عن الدوافع؟!
أقدم الجندي محمد صلاح على قتل الإسرائيليين وهو يعلم أنه سينال الشهادة، لذا لم يفكر في العودة وإنما انتظر ليوقع المزيد، وهو عندما اتخذ هذا القرار كان لديه كل الأسباب التي جعلته يتحرك بدون خوف، وهذا هو الذي يثير الرعب في المجتمع الإسرائيلي، فالدوافع التي أخرجت محمد صلاح اليوم ستخرج الكثير من محمد صلاح غدا.
يحاول الإسرائيليون استخدام ما جرى في الابتزاز، وتوظيف الحدث لفرض المزيد من القيود، والحصول على تنازلات رسمية، لكن عدوانيتهم المفرطة وصراعاتهم الداخلية تمنعهم من استيعاب ما يجري، من تغيير في رؤية الأجيال الجديدة التي أصبحت أكثر وعيا نتيجة مواقع التواصل والانفجار المعلوماتي.
مع صعود التطرف في الكيان الصهيوني في السنوات الأخيرة زادت عمليات المقاومة الشعبية، فكل تصعيد صهيوني يقابله تصعيد في العمل المقاوم العنيف، وقد رأينا عمليات الدعس والطعن، ثم تطورت إلى المقاومة المسلحة في الضفة، وكلها عمليات تضحية بالنفس من الأجيال الجديدة، وها هو الرد على التطرف الإسرائيلي يمتد إلى الحدود مع مصر وهو التحول الأخطر.
التحولات الجديدة لا يمكن وقفها أو وضع العراقيل لمنعها، لأنها تحولات في المشاعر والقلوب، غير منظورة ويصعب التنبؤ بها لأنها تحركات فردية، وهي تحولات سريعة ومميتة، وما دامت مسببات الغضب مستمرة فإن الرد عليها سيستمر، ولن تُعلَم كيفيته ولا مكانه ولا زمانه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق