تتويج أردوغان وبداية القرن التركي الإسلامي
مشاركة 78 دولة في حفل تنصيب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعكس أهمية الانتصار الكبير الذي حققه الأتراك، في أهم انتخابات تابعها العالم، لما يترتب عليها من عودة الدولة التركية إلى مكانتها الدولية، في ظل التطورات الاستراتيجية التي تجرى لتأسيس نظام دولي جديد ووضع نهاية للهيمنة الأمريكية ونظام القطب الواحد.
استطاع الشعب التركي أن ينتصر في أشرس معركة تشارك فيها الدوائر الأمريكية والأوربية لإسقاط تجربة حزب العدالة والتنمية، والتخلص من الزعيم الذي يخيف الغرب، وجاء فوز أردوغان ليؤكد أن العالم الإسلامي يشهد بداية قرن جديد يختلف عن سابقه، وعودة تركيا كدولة إسلامية كبرى بعد مئة عام من الاحتلال والحصار والتغريب.
لم تكن معركة أردوغان ضد جبهة للمعارضة، وإنما ضد حلف يتكون من الداخل والخارج، استخدم كل الوسائل غير الشريفة للقضاء على الزعيم المسلم بالانتخابات، بعد أن فشلوا في إزاحته بالانقلاب العسكري، وكانت الأمم والشعوب تتابع المعركة لحظة بلحظة، بين متعاطف ومؤيد للزعيم التركي وعدو وحاقد وكاره للإسلام.
لم تكن الانتخابات عادية، فقد كانت الأعصاب مشدودة منذ الجولة الأولى، وحتى آخر لحظة في جولة الإعادة، ثم انفجرت الأفراح في تركيا والعواصم العربية والإسلامية مع ظهور النتيجة والإعلان عن فوز أردوغان، وكانت المشاعر العفوية من أندونيسيا وحتى المغرب دليلا على أن الأمة واحدة رغم الانقسامات والخلافات المصطنعة.
ولأن المنتصر يفرض احترامه فقد رأينا رؤساء وملوك العالم يسارعون بتقديم التهنئة لأردوغان، في مقدمتهم خصومه الذين تدخلوا في الشأن التركي وشاركوا في محاولة إسقاطه، فكان من أوائل المهنئين الرئيس الفرنسي ماكرون عدوه اللدود، والرئيس الأمريكي بايدن الذي كشف من قبل عن خطة إسقاط أردوغان بدعم المعارضة.
حتى رئيس وزراء السويد الذي رفض أردوغان الموافقة على انضمام بلاده للناتو بعد واقعة حرق المصحف كان من المبادرين بالتهنئة، كما خفف الإعلام الغربي من مواقفه، وبعد أن كان رأس الحربة في التحريض ضد أردوغان ونشر استطلاعات الرأي الكاذبة عاد بعد الفوز يتحدث باحترام عن اختيار الشعب التركي وكأن شيئا لم يكن!
الشعوب أقوى
حرص أردوغان في خطاب النصر وفي خطاب التنصيب على التأكيد على قوة الشعب في إفشال المؤامرة، فالتجربة التركية أكدت أن قوة الجماهير المؤمنة بالله لا تقهر، وأن صلابتها تسقط المؤامرات، وفي المقابل نرى المكر الغربي الذي يجيد لعبة السيطرة على الحكام المستبدين وإذلالهم يقف عاجزا أمام قوة الشعوب التي تحمي بلادها من ألاعيب الهيمنة الخارجية.
بسبب قوة الجماهير في حماية الدول وقدرتها على هزيمة المكر المعادي، فإن اللعبة المكررة لثعالب السياسة الغربية هي إبعاد الشعب عن الحكم، وجعل اللعبة حكرا على الدوائر التابعة، بتقوية الأطراف الضعيفة وصناعة مستبدين ضعفاء، ودعمهم لمنع الشعوب من استعادة زمام القيادة، لأن في ذلك نهاية الهيمنة الخارجية وطرد الاحتلال بصوره المتنوعة ونيل الاستقلال الكامل.
في كل البلاد التي حاولت تغيير حكامها بالانقلابات أو بالثورات، كان الدور الغربي يعمل على قطع الطريق ومنع الشعوب من الوصول إلى صندوق الانتخابات، بدعم الاستبداد أو بإرسال مبعوثين دوليين بزعم الحل، وفي كل التجارب كان هؤلاء المبعوثون يعمقون الخلافات ويشعلون الصراعات ليظل الشعب بعيدا.
آخر تجربة كانت في السودان بعد سقوط البشير، كان الطبيعي أن تجرى الانتخابات لإعادة تأسيس النظام السياسي، ولكنهم استخدموا الجيش والدعم السريع لإبعاد الشعب عن الحكم، وأصروا على تسليم السلطة لحفنة من السياسيين المدنيين الانتهازيين التابعين؛ وقد بقوا 4 سنوات في مرحلة انتقالية وكانوا يخططون للبقاء 10 سنوات إضافية بدون انتخابات، بمزاعم محاربة الإخوان، حتى انهارت اللعبة فوق رءوسهم وتم تخريب الخرطوم.
القرن التركي
أعلن أردوغان أن الفوز الكبير في يوم فتح القسطنطينية هو إعلان عن بداية قرن جديد لتركيا، يطلق عليه الساسة الأتراك “القرن التركي” وهذا الشعار يشير إلى الطموحات الكبيرة للجيل الحالي في ظل قيادة كاريزمية، وتتجاوب الشعوب العربية والإسلامية بالتشجيع والحماس، الذي يعكس حالة من الاتحاد النادر على أساس الوحدة الإسلامية التي ظنوا أنها ماتت.
تأييد الشعوب في العالمين العربي والإسلامي لأردوغان لم يأت من فراغ، فأردوغان لا يقول شعارات جوفاء وإنما قام بأفعال زرعت حبه في قلوب المسلمين؛ فقد قدم نموذجا ناجحا لعقل إسلامي يقاتل في عدة جبهات، ضد أعداء واضحين ومنافقين داخليين وسذج وانهزاميين لا يرون موضع أقدامهم.
لقد كان أردوغان زعيما شهما استضاف المطاردين من المسلمين، ودفع أثمانا غالية بسبب هذا الملف، بل كان موضوع اللاجئين سببا في الهجوم عليه في المعركة الانتخابية، ولكن فتح الأبواب لمن أخرجوا من بلادهم كان له أثره الايجابي الذي لا يقدر بمال في تحسين صورة تركيا في العالم الإسلامي، ومحو الصورة السلبية التي حرصت أنظمة متعاقبة على رسمها للأتراك منذ تقسيم سايكس بيكو.
مشروع أردوغان هو الاستقلال عن الهيمنة الغربية والاعتماد على الذات، وهذا لن يحدث في ظل الهيمنة العسكرية الخارجية، فنجح في تطوير صناعة السلاح، وحقق قفزات هائلة خلال عشرين عاما، وكانت إنجازاته بارزة في الأسلحة الذكية والطيران المسير، تفوق فيها على الدول الغربية، واستطاع بدهائه أن يفلت من التورط في حروب خاسرة واستفاد من الصراعات حوله لصالح تركيا.
التطورات الدولية تخدم أردوغان
التطورات على الساحة الدولية تخدم مشروع أردوغان، فأمريكا متراجعة وقوتها الإمبراطورية في أفول، وروسيا التي كانت سببا في تدمير الدولة العثمانية وتهيمن على الدول المسلمة في آسيا الوسطى وتحتل سوريا مستنزفة في حرب أوكرانيا، ويحتاج الروس إلي تركيا لمواجهة العقوبات، وفرنسا التي مازالت تحرض دول أوربا تتلقى الضربات في أفريقيا وتستعد للرحيل من مستعمرات المسلمين التي كانت تنهب ثرواتها.
العالم العربي الذي تم تغييبه عن الساحة وحرق نصف دوله تنتشر فيه حالة من الوعي وروح جديدة بفضل الإعلام الجديد والمعاناة من النكسات السياسية والاقتصادية، وثبت في الوعي الجمعي أن الارتباط بأمريكا وأوربا كان سببا في الهزيمة الاستراتيجية في كل الملفات، وتؤكد اتجاهات الرأي العام أن بقاء الحال من المحال.
العرب سيحتاجون السلاح التركي المتطور لحماية أنفسهم بعد فشل السلاح الأمريكي في تحقيق أمنهم، وسيقدمون قريبا جدا على فك الارتباط المهين مع الولايات المتحدة الأمريكية التي مازالت تحرص على التفوق الإسرائيلي على كل الدول العربية مجتمعة، ولن تنجح محاولات شق الصف الإسلامي في إبعاد العرب عن الأتراك، خاصة وأن المبادرة للوحدة الآن تأتي من الأتراك الذين لديهم ما يقدمونه.
الصعود التركي سيفرض نفسه على الشرق والغرب بحكم المصالح، وسيكون التجاوب معه بإيجابية بحكم الضرورة، وستتبدل المواقف ويكون التعامل مع الأتراك باحترام من باب الإقرار بالأمر الواقع، أما الحكومات العربية التي تعادي أردوغان -لأسباب غير واضحة- فسيهرولون إلى إسطنبول من باب تقليد غيرهم؛ إذا لم يذهبوا طواعية احتراما للرابطة الإسلامية التي ستكون هي المتغير الأهم في القرن القادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق