رسائل "موقعة" المهندسين المصريين
قطب العربي
يوم الثلاثاء الماضي (30 أيار/ مايو) عقدت نقابة المهندسين المصرية جمعية عمومية طارئة اقتصرت أعمالها على بند واحد هو سحب الثقة من نقيبها المختلف مع مجلس النقابة، صاحب الدعوة لتلك الجمعية، وعلى خلاف ما أراد أصحاب الدعوة فقد صوّت المهندسون بأغلبية كبيرة ضد القرار المطروح، مجددين ثقتهم بنقيبهم، ما يعني في المقابل رفضهم للمجلس المحسوب على حزب مستقبل وطن، وهو حزب السلطة حاليا في مصر، الذي يحتل أغلبية برلمانية في غرفتي البرلمان (النواب والشيوخ) كما تتبوّأ قياداته المواقع التنفيذية في الدولة.
لم يحتمل حزب السلطة تلك النتيجة، فأرسل فرقة مدربة من البلطجية يتقدمهم عدد من نواب وقيادات الحزب لإفساد الجمعية العمومية في دقائقها الأخيرة قبيل الإعلان الرسمي لنتيجة التصويت، وقام أولئك البلاطجة بتحطيم صناديق التصويت، والاعتداء على بعض المهندسين، وانتهت الجمعية دون إعلان رسمي للنتيجة. وقد تم تسجيل تلك البلطجة بالصوت والصورة، وكشفت مواقع صحفية مصرية أسماء المعتدين، وصفاتهم، مع صورهم خلال الاعتداء، والأمر الآن بين يدي النيابة العامة للتحقيق في تلك الوقائع بعد افتضاح الأمر.
وُصفت المعركة بأنها موقعة الجمل الثانية (كانت الأولى يوم 2 شباط/ فبراير 2011، في الأيام الأولى لثورة يناير)، وكان قائد المقتحمين لجمعية المهندسين وهو نائب برلماني عن حزب السلطة (مستقبل وطن) ضمن قادة موقعة الجمل الأولى أيضا. واكتسبت المعركة أهميتها من هذا التصرف المجنون لحزب السلطة تجاه شأن نقابي، والذي سجّلته وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يعد يصلح لنفيه بيان هزيل من الحزب.
كان احتشاد المهندسين بكثافة لحضور الجمعية العمومية ثم تصويتهم بكثافة لتجديد الثقة بنقيبهم الذي ينتمي لتيار الاستقلال النقابي، هو رسالة عن ارتفاع منسوب الغضب بين الطبقة الوسطى ضد النظام الحاكم، وحزبه والقيادات النقابية المنتمية إليه، والتي مثّلت أغلبية داخل مجلس نقابة المهندسين يتقدمهم عدد من الجنرالات الذين يرأسون هيئات حكومية كبرى، والذين حشدوا منسوبي تلك الهيئات وهم يمثلون كتلا ضخمة بين المهندسين، لكنهم صوّتوا ضد إرادة رؤسائهم أيضا.
هذا الغضب الذي ظهر في الجمعية العمومية كانت بذرته قبل أكثر من عام (آذار/ مارس 2022) حين اختار المهندسون نقيبا لهم هو المهندس طارق النبراوي، أحد مؤسسي حزب الكرامة الناصري وأحد القيادات الطلابية لجيل السبعينات، في مواجهة المرشح المحسوب على السلطة، وزير النقل السابق هاني ضاحي. وقد برز الخلاف بين النقيب ومجلس النقابة منذ الأسابيع الأولى لتشكيل المجلس الجديد، وانفجر في جمعية عمومية سابقة في آذار/ مارس الماضي.
كان فوز النبراوي بموقع نقيب المهندسين بمثابة ثقب في جدار الاستبداد، فرغم أن النبراوي ينتمي لمعسكر 30 يونيو، إلا أن ذلك لم يشفع له لدى حزب السلطة، الذي حاصره من خلال رجاله في النقابة، وبالتالي ظهر النبراوي مستقلا عن السلطة في نظر المهندسين الذين التفّوا حوله في أزمته مع الحزب ورجاله داخل النقابة.
جاء الثقب الثاني في جدار الاستبداد بفوز الصحفي اليساري خالد البلشي بموقع نقيب الصحفيين، ومعه أغلبية في مجلس النقابة بعد عام واحد من فوز النبراوي، وقد حظي فوزه باهتمام كبير نظرا للثقل النوعي لنقابة الصحفيين، ونظرا لخضوعها السابق لهيمنة كاملة من السلطة.
ومثّل ذلك الفوز أيضا رسالة واضحة عن احتقان هذا القطاع المهني المهم، ورغبته في التغيير، وبين المهندسين والصحفيين كان المحامون يقودون معركة ضد قرار حكومي يتعلق بالفواتير الالكترونية، وهو الموقف الذي انحازت له نقابات مهنية أخرى، وكشف عن تراجع منسوب الخوف لدى هذه الطبقة الوسطى، وهو الخوف الذي حاصرها لعقد كامل بعد المذابح البشعة التي ارتكبها النظام ضد اعتصامات معارضيه (رابعة والنهضة والمنصة وغيرها)، مع تصاعد قبضته الأمنية ضد كل الفئات بعد أن كانت مقتصرة من قبل على الإخوان وحلفائهم.
فهِمَ النظام أن احتشاد المهندسين الكبير في نقابتهم، ومن ثم تصويتهم المعاكس لمشيئته هو خطر كبير، وعدوى ستتصاعد تدريجيا مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي في آذار/ مارس 2024، ومن هنا فقد سارع إلى إطفاء تلك الجذوة قبل أن تنتقل إلى أماكن أخرى، ودفع بفرقة البلطجية لتحطيم صناديق الاقتراع، وترويع المهندسين حتى يكونوا عبرة لغيرهم من الساعين للتغيير، وهي بروفة عملية مصغرة لما سيتم في أي انتخابات رئاسية أو برلمانية أو حتى محلية مقبلة.
جرت موقعة المهندسين بينما كان حزب مستقبل وطن (مقاول البلطجية) يحاور (صوريا) أحزاب المعارضة، وبينها حزب الكرامة الذي ينتمي له النقيب في "مكلمة" الحوار الوطني على بعد خطوات من مسرح الجريمة. والرسالة هنا أن النظام يستخدم العصا والجزرة لترويض المعارضة، ولعل تلك الموقعة تكشف جانبا من صراعات مراكز القوى داخل النظام بين فريق "التنفيس"، أي الذي يتبنى قدرا بسيطا من التنفيس لمنع الانفجار وتمثله المخابرات العامة، وفريق "الإغلاق التام" الذي يرفض أي تنفيس خوفا من اتساع الخرق على الراقع كما حدث في ثورة يناير، ويمثله جهاز الأمن الوطني، إذ سمح الفريق الأول بفوز مرشح يساري بموقع نقيب المهندسين (وآخر من بعده بموقع نقيب الصحفيين)، فيما تدخّل الفريق الثاني لمعاكسة نقيب المهندسين، والدفع لسحب الثقة منه، ثم إرسال البلطجية لتخريب الاقتراع تحت حماية أمنية كاملة. وهذا التباين بين وجهتي نظر ذراعي النظام الأمنيين ظهر في العديد من المسارات؛ منها الحوار الوطني ولجنة العفو الرئاسي، وأحكام الإعدامات.. إلخ.
تبقى الرسالة الأهم في موقعة المهندسين هي احتشادهم الكبير وراء نقيبهم، وفي مواجهة جنرالات السلطة وحزبها، ورغم الاعتداء الوحشي الذي تعرّضوا له إلا أنهم واصلوا تمسكهم بموقفهم، ورفعوا أصواتهم لمحاسبة المعتدين، وأعلنوا عزمهم التصدي لأي محاولة لفرض الحراسة على نقابتهم، وفي كل الأحوال فقد وصل صوتهم إلى من يعنيه الأمر على المستويين الشعبي والرسمي.
twitter.com/kotbelaraby
لم يحتمل حزب السلطة تلك النتيجة، فأرسل فرقة مدربة من البلطجية يتقدمهم عدد من نواب وقيادات الحزب لإفساد الجمعية العمومية في دقائقها الأخيرة قبيل الإعلان الرسمي لنتيجة التصويت، وقام أولئك البلاطجة بتحطيم صناديق التصويت، والاعتداء على بعض المهندسين، وانتهت الجمعية دون إعلان رسمي للنتيجة. وقد تم تسجيل تلك البلطجة بالصوت والصورة، وكشفت مواقع صحفية مصرية أسماء المعتدين، وصفاتهم، مع صورهم خلال الاعتداء، والأمر الآن بين يدي النيابة العامة للتحقيق في تلك الوقائع بعد افتضاح الأمر.
وُصفت المعركة بأنها موقعة الجمل الثانية (كانت الأولى يوم 2 شباط/ فبراير 2011، في الأيام الأولى لثورة يناير)، وكان قائد المقتحمين لجمعية المهندسين وهو نائب برلماني عن حزب السلطة (مستقبل وطن) ضمن قادة موقعة الجمل الأولى أيضا. واكتسبت المعركة أهميتها من هذا التصرف المجنون لحزب السلطة تجاه شأن نقابي، والذي سجّلته وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يعد يصلح لنفيه بيان هزيل من الحزب.
كان احتشاد المهندسين بكثافة لحضور الجمعية العمومية ثم تصويتهم بكثافة لتجديد الثقة بنقيبهم الذي ينتمي لتيار الاستقلال النقابي، هو رسالة عن ارتفاع منسوب الغضب بين الطبقة الوسطى ضد النظام الحاكم، وحزبه والقيادات النقابية المنتمية إليه، والتي مثّلت أغلبية داخل مجلس نقابة المهندسين يتقدمهم عدد من الجنرالات الذين يرأسون هيئات حكومية كبرى، والذين حشدوا منسوبي تلك الهيئات وهم يمثلون كتلا ضخمة بين المهندسين، لكنهم صوّتوا ضد إرادة رؤسائهم أيضا.
هذا الغضب الذي ظهر في الجمعية العمومية كانت بذرته قبل أكثر من عام (آذار/ مارس 2022) حين اختار المهندسون نقيبا لهم هو المهندس طارق النبراوي، أحد مؤسسي حزب الكرامة الناصري وأحد القيادات الطلابية لجيل السبعينات، في مواجهة المرشح المحسوب على السلطة، وزير النقل السابق هاني ضاحي. وقد برز الخلاف بين النقيب ومجلس النقابة منذ الأسابيع الأولى لتشكيل المجلس الجديد، وانفجر في جمعية عمومية سابقة في آذار/ مارس الماضي.
كان فوز النبراوي بموقع نقيب المهندسين بمثابة ثقب في جدار الاستبداد، فرغم أن النبراوي ينتمي لمعسكر 30 يونيو، إلا أن ذلك لم يشفع له لدى حزب السلطة، الذي حاصره من خلال رجاله في النقابة، وبالتالي ظهر النبراوي مستقلا عن السلطة في نظر المهندسين الذين التفّوا حوله في أزمته مع الحزب ورجاله داخل النقابة.
جاء الثقب الثاني في جدار الاستبداد بفوز الصحفي اليساري خالد البلشي بموقع نقيب الصحفيين، ومعه أغلبية في مجلس النقابة بعد عام واحد من فوز النبراوي، وقد حظي فوزه باهتمام كبير نظرا للثقل النوعي لنقابة الصحفيين، ونظرا لخضوعها السابق لهيمنة كاملة من السلطة.
ومثّل ذلك الفوز أيضا رسالة واضحة عن احتقان هذا القطاع المهني المهم، ورغبته في التغيير، وبين المهندسين والصحفيين كان المحامون يقودون معركة ضد قرار حكومي يتعلق بالفواتير الالكترونية، وهو الموقف الذي انحازت له نقابات مهنية أخرى، وكشف عن تراجع منسوب الخوف لدى هذه الطبقة الوسطى، وهو الخوف الذي حاصرها لعقد كامل بعد المذابح البشعة التي ارتكبها النظام ضد اعتصامات معارضيه (رابعة والنهضة والمنصة وغيرها)، مع تصاعد قبضته الأمنية ضد كل الفئات بعد أن كانت مقتصرة من قبل على الإخوان وحلفائهم.
فهِمَ النظام أن احتشاد المهندسين الكبير في نقابتهم، ومن ثم تصويتهم المعاكس لمشيئته هو خطر كبير، وعدوى ستتصاعد تدريجيا مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي في آذار/ مارس 2024، ومن هنا فقد سارع إلى إطفاء تلك الجذوة قبل أن تنتقل إلى أماكن أخرى، ودفع بفرقة البلطجية لتحطيم صناديق الاقتراع، وترويع المهندسين حتى يكونوا عبرة لغيرهم من الساعين للتغيير، وهي بروفة عملية مصغرة لما سيتم في أي انتخابات رئاسية أو برلمانية أو حتى محلية مقبلة.
جرت موقعة المهندسين بينما كان حزب مستقبل وطن (مقاول البلطجية) يحاور (صوريا) أحزاب المعارضة، وبينها حزب الكرامة الذي ينتمي له النقيب في "مكلمة" الحوار الوطني على بعد خطوات من مسرح الجريمة. والرسالة هنا أن النظام يستخدم العصا والجزرة لترويض المعارضة، ولعل تلك الموقعة تكشف جانبا من صراعات مراكز القوى داخل النظام بين فريق "التنفيس"، أي الذي يتبنى قدرا بسيطا من التنفيس لمنع الانفجار وتمثله المخابرات العامة، وفريق "الإغلاق التام" الذي يرفض أي تنفيس خوفا من اتساع الخرق على الراقع كما حدث في ثورة يناير، ويمثله جهاز الأمن الوطني، إذ سمح الفريق الأول بفوز مرشح يساري بموقع نقيب المهندسين (وآخر من بعده بموقع نقيب الصحفيين)، فيما تدخّل الفريق الثاني لمعاكسة نقيب المهندسين، والدفع لسحب الثقة منه، ثم إرسال البلطجية لتخريب الاقتراع تحت حماية أمنية كاملة. وهذا التباين بين وجهتي نظر ذراعي النظام الأمنيين ظهر في العديد من المسارات؛ منها الحوار الوطني ولجنة العفو الرئاسي، وأحكام الإعدامات.. إلخ.
تبقى الرسالة الأهم في موقعة المهندسين هي احتشادهم الكبير وراء نقيبهم، وفي مواجهة جنرالات السلطة وحزبها، ورغم الاعتداء الوحشي الذي تعرّضوا له إلا أنهم واصلوا تمسكهم بموقفهم، ورفعوا أصواتهم لمحاسبة المعتدين، وأعلنوا عزمهم التصدي لأي محاولة لفرض الحراسة على نقابتهم، وفي كل الأحوال فقد وصل صوتهم إلى من يعنيه الأمر على المستويين الشعبي والرسمي.
twitter.com/kotbelaraby
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق