في وداع مناضلة استثنائية
وائل قنديل
المشكلة يا سيدتي أنك عوّدتنا على الانتصار في كل معاركك الصعبة، تلك التي خضتها وحدك، أو كنا فيها معك، لذا كان رحيلك المباغت، بكل هذه السهولة والسرعة الخاطفة، أقوى من الاحتمال وأعنف من الزلزال.
1 - مها وشاهندة
كنت تلميذاً بالصف السادس من المرحلة الابتدائية، لم أبلغ عامي الثاني عشر وقتذاك، حين دخلت قاعة محكمة أول مرة ورأيتك خلف القضبان تبتسمين وتهتفين، صحبة أخريات أذكر منهن شاهندة مقلد، رحمها الله، أو"ماما شاهندة" كما كانت تناديها تلميذاتها في الثورة.
كان ذلك في العام 1977، بعد أسابيع من انتفاضة الشعب المصري ضد نظام أنور السادات وقراراته الاقتصادية التي أوجعت عموم الناس، وكنت أنت طالبة بجامعة عين شمس، ومن بين المعتقلات بعد الانتفاضة، انتفاضة الخبز كما عرفها الناس، وانتفاضة الحرامية كما أطلق عليها نظام السادات، وكنت تقفين مع زميلاتك وأستاذاتك المناضلات أمام القاضي في شموخ، تهتفن في قاعة المحكمة الهتافات ذاتها التي رددها الملايين في الشوارع والجامعات والمواصلات العامة، وانتهى الأمر بترحيلك وزميلاتك إلى سجن النساء بمدينة القناطر الخيرية.
كنت في حضرة صوتك على قيد الحياة في نصف غربة، وها أنا اليوم في غربة كاملة ونصف حياة بعد رحيلك يا بنت أبي وأمي..آه يا مها
حفظت الهتافات ورددتها في مدرستي الابتدائية، فكان نصيبي ضرباً مبرحاً بالعصا الخيزران أمام التلاميذ من "حضرة الناظر"، الذي كنت أحبه كثيراً، ثم خرجت أنت من السجن لتتعدد مرات رسوبك الإجباري المفروض بقرار من الأمن، حتى حصلت على البكالوريوس وتخرجت أخيراً واشتغلت معلمة للكيمياء والفيزياء سنوات عديدة.
2 - مها وأنا
معركتك الثانية كان أعنف، والعدو فيها أكثر شراسة وخسًة، وقد كنت معك فيها، نقطع الطريق من المدينة الصغيرة، حيث تزوجت وأقمت وأنجبت بناتك الأربع وولدك الوحيد، إلى القاهرة، حيث أقطن وأعمل، وتبتلعنا الشوارع والمشاوير الصعبة في المدينة الخانقة، المختنقة بالزحام والضجيج، من عيادة الطبيب في وسط القاهرة، إلى المستشفى، حيث جلسات العلاج الإشعاعي، ثم العلاج الكيماوي، وأنت صامدة كما رأيتك أول مرة، بوجهك الملائكي الأجمل من كل ما رأيت من صور النجمات الجميلات.
تصممين أحياناً على الخروج من المستشفى إلى "البلد" مباشرة دون المبيت معي وزوجتي وطفلي الصغيرين، بمسكننا الصغير، وحجتك أن الأولاد وحدهم ولا بد من العودة، فننطلق معاً إلى حيث تريدين، مخترقين الزحام الخانق، نصارع الوقت، وسخافات السائقين، وألم ما بعد جلسة الكيماوي.
كان صراعاً مريراً، لكنك خرجت منتصرة، صحيح أنك فقدت جزءاً من جسدك في المعركة، لكن روحك بقيت، كما هي، مكتملة الجمال والنقاء والسمو الإنساني الذي لا حدود له.
3 - أنا وشاهندة ومها
أتذكر ضحكتك حين قلت لك إن الأستاذة شاهندة مقلد طلبت رقم هاتفك وتريد أن تزورك، وجلست أقص عليك الحكاية العجيبة في ليلة من ليالي الميدان أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011 حين أسعدني زماني بالتعرف على "الأم شاهندة"، فقلت لها إنها من علمتني الهتاف، ورجعت بها إلى ما انحفر في ذاكرتي أثناء وقوفي طفلاً يتفرج على المحكمة، والهتاف داخل قفص الاتهام سنة 1977، وقلت لها إن أختي مها، فكانت سعادتها لا توصف.
كنت أقيم في مسكني الصغير بالقاهرة الجديدة، وهو المسكن الذي اشتريته بعد نضال طويل كنت سندي فيه، وكانت شاهندة تقيم في المنطقة ذاتها، فكنت أوصلها بسيارتي عائدين من سهرة الميدان وسط الحشود أحياناً.
مع هبوب غبار يونيو/ حزيران 2013، كانت "أم المتظاهرات شاهندة" قد انتقلت إلى الضفة الأخرى، ضد الرئيس المنتخب بعد الثورة، فتباعدت المسافات، وانقطعت الاتصالات.
عشرون عاماً كانت قد مرت على معركتك مع السرطان اللعين، حين وجدت نفسك بمواجهة الألعن منه، لكنك كنت وحيدة هذه المرة، ولم أنل شرف المشاركة، إذ كنت قد بدأت غربتي الإجبارية حين امتدت يد سوداء واختطفت ولدك الوحيد، الذي كان قد أنهى للتو دراسة الإعلام، ولم يكن له أي اهتمام أو انتماء سياسي في أي وقت، وألقت به في السجن، وكانت قرابتي له هي التهمة.
وهكذا فرضت عليك في معركة استعادته، التي خضتها تقطعين السكة وحدك من شمال الوجه البحري إلى شمال الصعيد مثل آلاف الأمهات الصامدات أردد دعواتهن اليومية المنشورة على "فيسبوك" بتيسير الزيارة، تحملين وجع المرض اللعين وتذهبين للزيارة ومعك حقيبة تحتوي كثيرا من الطعام والفاكهة إلى الصغير، لا يصل إليه منها إلا القليل.
عشرون عاماً كانت قد مرت على معركتك مع السرطان اللعين، حين وجدت نفسك بمواجهة الألعن منه، لكنك كنت وحيدة هذه المرة، ولم أنل شرف المشاركة
ذات ليلة، قلت لي إن شاهندة اتصلت بك تبكي لأنني وجهت لها شتائم وسبابا في أحد مقالاتي، فقلت لك لو كنت قد فعلت ذلك، فأنا مدين لها بالتعويض الذي تريده، وأرسلت لك نسخة من المقال لتقرئيه وتحكمي بيننا، بعدها أبلغتك شاهندة أنها لم تقرأ المقال، بل استمعت لمذيع في إحدى القنوات التي تبث من الخارج يقرأ فقرات منه ويضمنها شتائم، وبالفعل حين بحثت عن الفيديو روعني ما سمعت، إذ لم يلتزم بنص المقال وحمله بما يريد توجيهه إلى السيدة. وقتها سألتك وقد كانت شاهندة عضوا بمجلس حقوق الإنسان الذي تم تشكيله بعد 2013: هل قدمت أي دعم أو حتى تعاطف معك في محنة ابنك، فكان ردك أنك لم تفكري في إبلاغها أصلًا، ثم طلبت منك أن تخبريها بأنني سأعالج موضوع استخدام مقالي في الإساءة لها، وبالفعل ظهرت بعدها في البرنامج ذاته يناير 2017، وقبل انتهاء اللقاء، قلت للمذيع أنت مدين باعتذار لي وللمشاهد وللسيدة شاهندة مقلد عن ألفاظ وجهتها إليها وأنت تستعرض فقرات من مقالي، وهي ألفاظ لا يصح توجيهها إلى أي امرأة مصرية مهما كان حجم الخلاف معها، ولم أخرج من الاستوديو إلا بعد أن حصل الاعتذار.
4 - مها وحدها
سنوات تناضلين في المسافة بين البيت والسجن، بمفردك إذ خذلتك هذه الجولة رغم أنك كنت تنهرينني كلما قلت لك ذلك، فيما كانت المعركة الأعنف قد دقت بابك، وأنت في قلب معركة الابن، حيث زار المرض الزوج الطبيب، الرسام الشاعر المرهف، فأقعده وألزمه المنزل، لتواصلين القتال من دون توقف، مبتسمة راضية مرفوعة الرأس لا تتوقفين عن نثر محبتك وعطفك على كل من حولك.
طوال سنوات ارتحالي العشر، كان حضورك ولو هاتفيا فقط أهم ما في جعبتي، يأتيني صوتك يمسح على رأسي ويشد عضدي، نتكلم في كل شيء، إذ كنت في حضرة صوتك على قيد الحياة في نصف غربة، وها أنا اليوم في غربة كاملة ونصف حياة بعد رحيلك يا بنت أبي وأمي..آه يا مها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق