الأحد، 1 سبتمبر 2024

على طريق تحرير القدس موقعة الأقحوانة.. والفرصة الضائعة

على طريق تحرير القدس موقعة الأقحوانة.. والفرصة الضائعة

 . أحمد الظرافي


 
 

في 13 محرم 507هـ، التقى المسلمون والفرنجة، ودارت بينهما معركة طاحنة، تشبه معركة حطين، التي جرت فيما بعد (583هـ)، وحقق المسلمون فيها انتصارًا باهرًا على الفرنجة، وكان تحرير بيت المقدس قاب قوسين أو أدنى


في رجب 492هـ، وصلت الحملة الصليبية إلى بيت المقدس، فأطبقت عليها، وحاصرتها حصارًا خانقًا، فنجح الصليبيون في اقتحامها، في ظهيرة يوم الجمعة 23 شعبان 492هـ، بعد حصار دام خمسة أسابيع، وأعقب ذلك ارتكابهم لمذبحة من أشد المذابح هولاً في التاريخ، فكانت تلك صدمة كبرى اهتز لها العالم الإسلامي كله.

الأمير مودود ينهض للجهاد

وفي غضون ذلك، وجه السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه، كتبه إلى سائر البلاد الإسلامية معلًنا فيها بما هو عليه من قوة العزم على قصد الجهاد، ولقيت هذه الدعوة استجابة سريعة من قبل تابعه وممثله الأتابك (الأمير) مودود صاحب الموصل، الذي كان مفعمًا بالحماس، ومتأهبًا للسير في هذه المهمة الجهادية، وكان رائدًا للجهاد ضد الفرنجة، فقد جعل قتالهم وطردهم، على رأس أهدافه وأولوياته، وكان أول من سعى لتوحيد كلمة المسلمين في بلاد الشام والجزيرة، لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي، كما كان أول من حقق انتصارات على الفرنج، كاسرًا حاجز الخوف النفسي، الذي ظل لفترة يحول دون قتالهم، ومدشنًا لمرحلة جديدة، لم يعد فيها الفرنجة قابضين على زمام الموقف في المنطقة. وعلى إثر ذلك اتسعت حركة الجهاد ضد الفرنجة لتضم، إلى جانب الأمير مودود، طغتكين صاحب دمشق، إضافة إلى حشود المتطوعة، الذين أدمى قلوبهم سقوط القدس، وهز وجدانهم وقوع المسجد الأقصى أولى القبلتين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم في براثن الفرنجة المتوحشين، القادمين من أوروبا، هذه الأخيرة التي كانت تعيش آنذاك، أحلك عصورها المظلمة، وقد أبلى هؤلاء المتطوعة بلاء حسنًا في قتال الفرنج، في تلك الفترة الحرجة من التاريخ الإسلامي. ذلك أن الدعوة التي أطلقها السلطان السلجوقي، وتلقّفها بحماسة الأمير مودود صاحب الموصل، لامست المشاعر المسلمين، فتداعى الغيارى منهم، إلى مواجهة الخطر المحدق بالأمة، وكسر الطوق الملتف حول عنقها والمهدد لها بالفناء، وذلك من خلال توسيع نطاق جبهة القتال ضد الفرنجة، وصولا إلى طردهم من بلاد المسلمين.

حصار إمارة الرها الصليبية

وكانت أولى ثمرات هذه التعبئة، محاصرة مدينة (إمارة) الرها، بقيادة الأمير مودود في ذي الحجة 503هـ، وإلحاق الهزيمة بقوات إفرنجية جاءت لمساندتها، وإيقاع خسائر في صفوفها، ولكن المسلمين سرعان ما انسحبوا من تحت أسوار المدينة، لأن صاحب دمشق المشارك في الحصار، تخوف من هجوم للفرنج على عاصمته، بعد اقتراب ملكهم منها، بينما عاد الأمير مودود إلى الموصل، للاستعداد لحملة جديدة ضد الرها، لذلك لم يلبث أن عاد لحصارها للمرة الثانية عام 505هـ، ولكنه لم يفلح في اقتحامها لقوة وشراسة صاحبها الكونت جوسلين.

 

ومهما كان من أمر، فإن انتصار المسلمين في هذه المعركة شكل تحولاً مهمًا لمصلحتهم، فقد استردّوا، زمام المبادرة من الفرنج، وتحرروا من عقدة الخوف، بل وتحول هذه العقدة إلى صفوف الفرنج

ثم عاد الأمير مودود لحصارها للمرة الثالثة مطلع عام 506هـ، ولم يقدر عليها أيضًا، بل إنه عاد مهزومًا ومتكبدًا بعض الخسائر هذه المرة، لكن دون أن يفت ذلك في عضده، أو يضعف من معنوياته. وأما عزم وتصميم الأمير مودود على تحرير الرها، وتوالي غاراته عليها، فيرجع لخطورة هذه الإمارة الصليبية، فقد كانت شوكة في خاصرة المسلمين لوقوعها في عمق بلادهم، في إقليم الجزيرة على الطريق البري الذي يربط بين مدينتي الموصل في شمال العراق وحلب في شمال الشام. وفي تلك الأثناء اشتدت ضغوط ملك بيت المقدس الفرنجي على دمشق، وكثرت غارات وتعديات قواته على ضواحيها الجنوبية، ونهب وتخريب مزارعها وضياعها، كما توالت هجمات تلك القوات على القوافل الخارجة من دمشق والمتجهة إلى مصر وإلى الحجاز، والواردة منهما أيضا، وتكررت هذه التعديات مرات عديدة خلال السنوات 502هـ، 504هـ، 506هـ. ولمواجهة هذا الخطر، وخوفًا من زحف الصليبيين على دمشق، بادر صاحبها (طغتكين)، بالاستنجاد بالأمير مودود صاحب الموصل، فاستجاب الأمير مودود للطلب.

الطريق إلى الأقحوانة

وفي مطلع عام 507هـ تحرك الأمير مودود على رأس جيشه، لملاقاة طغتكين، وانضم إليه صاحب سنجار (تميرك)، وأمير ماردين (أيلغازي)، وقطعوا مئات الكيلومترات حتى وصلوا إلى سلمية بوسط الشام، واجتمعت جيوشهم، بعد ذلك، بجيش طغتكين، واتفقوا على أن يكون الهدف هو مملكة بيت المقدس الصليبية، حيث الكتلة الرئيسية والأقوى للفرنجة، والتحقت بهم مجاميع من قبيلتي طيء وكلاب، فارتفعت معنويات المسلمين بذلك، وقويت عزائمهم لمواجهة الفرنج، وسارت الحملة جنوبًا عبر الأردن، باتجاه فلسطين، وأوغلت في مواقع الفرنج، حتى بلغت طبرية، الواقعة في منتصف المسافة بين دمشق والقدس. ولما وصلت أخبار هذه الحملة، إلى بلدوين ملك بيت المقدس، بادر بالتحرك على رأس جيشه شمالا، باتجاه طبرية، لمواجهة المسلمين بعيدا عن القدس المغتصبة، قبل أن تجتمع عليه جيوش الإمارات الصليبية الأخرى، التي كان قد أرسل إليها طالبًا النجدة منها.

عندئذ بادر الأمير مودود، بالبحث عن مكان مناسب للمعركة المرتقبة، التي ستكون الأولى بين المسلمين والفرنجة، منذ وطأت أقدامهم بلاد الشام، فوقع اختياره على جانب من شاطئ بحيرة طبرية يُدعى "الأقحوانة". وفي 13 محرم 507هـ، التقى الجمعان، ودارت بينهما معركة طاحنة، تشبه معركة حطين، التي جرت فيما بعد (583هـ)، وحقق المسلمون فيها انتصارًا باهرًا على الفرنجة، وأوقعوا فيهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم كثيرون في بحيرة طبرية، التي تعكرت بالدم، حتى امتنع الشرب منها أيامًا، ونجا بلدوين نفسه بمشقة بالغة، وظل جيشه بجرحاه وأثقاله، محاصراً بالجبال شهرين، لا يجرؤ على الحركة، وأُسر المسلمون منه الكثيرون، وغنموا أمواله وسلاحه، كما هزمت الجيوش الصليبية الأخرى التي قدمت للنجدة.

الفرصة الذهبية الضائعة

وعلى إثر هذا الانتصار الذي حققه المسلمون، دانت البلاد لهم بالطاعة، ووصلت طلائعهم إلى مشارف القدس، وكانت هناك فرصة ذهبية لتحريرها، بعد حوالي 14 عامًا فقط من احتلال الفرنجة لها، وبخاصة أنه لم يكن في مملكة بيت المقدس الصليبية كلها، حامية فرنجية بعد نكبتهم بالأقحوانة. ولكن المسلمين، لأمر أراده الله، لم يستغلوا هذه الفرصة ويصعدوا الحرب ضد الفرنجة لتحقيق ذلك الهدف، وإنما آثروا العودة إلى دمشق، آملين استئناف القتال في الربيع القادم.

ومهما كان من أمر، فإن انتصار المسلمين في هذه المعركة شكل تحولاً مهمًا لمصلحتهم، فقد استردّوا، زمام المبادرة من الفرنج، وتحرروا من عقدة الخوف، بل وتحول هذه العقدة إلى صفوف الفرنج، يقول وليم الصوري مؤرخ الفرنج، واصفًا ما حل بقومه في أعقاب المعركة: " لقد حوّلوا (المسلمون) المملكة بأسرها إلى حالة كبيرة من الرعب، بحيث لم يجرؤ أحد على المغامرة بالخروج من داخل الحصون". لكن ما حدث بعد عودة المسلمين إلى دمشق، كان محزنًا ومؤلمًا، لأن الأمير مودود، لم يلبث أن اغتيل في صحن المسجد الأموي بدمشق بعد صلاة الجمعة الأخيرة من ربيع الاخر 507هـ، وافتقدت جبهة المسلمين هذا الأمير البطل الشجاع. وأما القاتل ودافعه، فقد اُختلف فيهما "فقيل إن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله"، كما قال ابن الاثير. ومع ذلك، فلم تنطفأ شعلة الجهاد، فقد حملها بعده أمير الموصل الجديد (آقسنقر)، وحملها بعده ابنه عماد الدين، ثم حفيده نور الدين، حتى استلمها صلاح الدين، صاحب الانتصار الكبير والمدوي على الصليبيين في حطّين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق