الجمعة، 6 سبتمبر 2024

مصير محور فلادلفيا..

 

مصير محور فلادلفيا..

 . أحمد مصطفى الغر


 

تشكل منطقة محور فيلادلفيا (محور صلاح الدين) نقطة تقاطع بين مصر وقطاع غزة، وتحدٍّ في العلاقات المصرية الإسرائيلية، خلال الأشهر الماضية تحوّلت هذه المنطقة إلى مسرح لتجاذبات سياسية وعسكرية، وهو ما يثير تساؤلات حول مستقبل هذا المحور الاستراتيجي.

تحوّلات المحور

محور فلادلفيا عبارة عن شريط ضيق يمتد من البحر المتوسط شمالًا إلى معبر كرم أبو سالم جنوبًا ولا يتجاوز عرضه مئات الأمتار بطول 14.5 كيلومترًا، وهو جزء من المنطقة العازلة (د) التي فرضتها اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل في عام 1979م، وبموجب تلك الاتفاقية، ظلت القوات العسكرية المصرية والإسرائيلية بعيدة عن المنطقة، بالرغم من أن الملحق الأول باتفاقية كامب ديفيد، البروتوكول الخاص بالانسحاب الإسرائيلي وترتيبات الأمن، يتيح تواجد قوة عسكرية إسرائيلية محدودة من 4 كتائب مشاة وتحصينات ميدانية ومراقبين من الأمم المتحدة في منطقة المحور، وبالفعل فقد أحكمت إسرائيل سيطرتها على المحور حتى عام 2005م، في ذلك العام انسحبت إسرائيل بشكل أحادي من قطاع غزة فيما عرف بخطة "فك الارتباط"، ونُقلت مسؤولية الإشراف على المعابر الحدودية إلى السلطة الفلسطينية بحضور مراقبين من الاتحاد الأوروبي، منذ ذلك الحين لم يعد محور فيلادلفيا محط اهتمام كبير من قبل القاهرة أو تل أبيب.

وكان توقيع اتفاق فيلادلفيا بين مصر وإسرائيل في سبتمبر 2005م بمثابة تعزيز لاتفاقية السلام السابقة، حيث سمح الاتفاق بنشر قوات مصرية على الحدود مع غزة لمكافحة التهريب والكشف عن الأنفاق، من خلال تواجد حوالي 750 جنديًا من حرس الحدود المصري، وقبل عامين من انسحابهم أقام الإسرائيليون جدارًا من الأسمنت والمعدن بطول سبعة كيلومترات وبعلو 8 أمتار لعزل قسمي مدينة رفح، التي قُسّمت لشطرين عقب اتفاقية كامب ديفيد، بين مصر وغزة. إلا أن السيطرة على هذا المحور تغيّرت بشكل كبير عندما استولت حركة حماس على قطاع غزة في عام 2007م، وهو ما أعاد رسم المشهد الأمني في المنطقة برمته. ومع تصاعد التوترات الإقليمية وبدء الحرب على غزة في أعقاب عملية طوفان الأقصى، عاد محور فيلادلفيا إلى دائرة الضوء، لا سيما مع تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ديسمبر 2023 التي أشار فيها إلى ضرورة عودة إسرائيل للسيطرة على المحور بحجة تدمير الأنفاق المستخدمة لتهريب الأسلحة إلى حركة حماس، إلى جانب تحقيق مكاسب أمنية استراتيجية.

 

 التصعيد الإسرائيلي والسيطرة على المحور في مايو الماضي لم يمر دون رد فعل مصري، إذ أعلنت مصر عن رفضها لأي محاولة إسرائيلية للسيطرة الدائمة على محور فيلادلفيا

قبل أيام؛ تبنى مجلس الوزراء الأمني ​​الإسرائيلي، مقترحًا وخريطة للتواجد الإسرائيلي في محور فلادلفيا، وقد صوّت ضدهما وزير الدفاع يوآف غالانت فقط، مما تسبب في حدوث خلاف بينه وبين نتنياهو، المقترح الجديد يسمح بإعادة تمركز الجيش الصهيوني على طول الممر من خلال نقاط عملياتية وأبراج مراقبة وقوات مسلحة بشكل كبير وغطاء جوي إذا لزم الأمر، وهو ما يشكل ضغطًا ليس فقط على فصائل المقاومة الفلسطينية، بل وأيضاً على الجيش المصري، فوجود قوات إسرائيلية على الحدود بين غزة ومصر يفرض قواعد اشتباك جديدة، إذ إنه ينتهك ذلك المنطقة العازلة بين مصر وإسرائيل، وهو ما يعني المزيد من التوتر ومخاطر نشوب اشتباكات على الحدود.

ردّ الفعل المصري

التصعيد الإسرائيلي والسيطرة على المحور في مايو الماضي لم يمر

 دون رد فعل مصري، إذ أعلنت مصر عن رفضها لأي محاولة إسرائيلية للسيطرة الدائمة على محور فيلادلفيا، واعتبرت أن هذه الخطوة ستشكل تهديدًا خطيرًا للعلاقات المصرية الإسرائيلية، المسؤولون المصريون عبّروا عن رفضهم لأي وجود إسرائيلي في تلك المنطقة، التصريحات الرسمية المصرية تعكس قلق القاهرة من تأثير هذا التصعيد على أمنها القومي، وقد دعت الحكومة المصرية الأطراف الدولية المؤثرة إلى التدخل الفوري لنزع فتيل الأزمة، خاصةً وأنه إذا نجح نتنياهو في تحقيق أهدافه بالبقاء بالقرب من حدود مصر بحجة عزل غزة، فسوف تضطر مصر إلى الاستسلام للواقع الجديد على الأرض وقبول منطقة مفخخة على طول حدودها، وقد تجد مصر بالتبعية أيضا نفسها في مرمى النيران المتبادلة أو في اشتباكات حدودية، وهو ما قد يؤدي على الأرجح إلى تورطها في صراعات مستقبلية، خاصة وأن المقاومة الفلسطينية لا تزال في حالة حرب.

من وجهة نظر القاهرة، يمثل محور فيلادلفيا منطقة استراتيجية وأمنية حرجة، ليس فقط بسبب قربها الجغرافي من الحدود المصرية، ولكن أيضًا نظرًا لدورها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وما يقلق مصر أكثر هو أن الإسرائيليين يخفون حتى الآن حجم الانتشار المقترح للقوات في ممر فيلادلفيا، والأسلحة التي سيحملونها وطبيعة مهام المراقبة، خاصةً وأن بعض التقارير أشارت إلى أن إسرائيل ترغب في توسيع المنطقة العازلة بشكل أعمق داخل فلسطين، لكن الملاحظ حتى الآن أن رد الفعل المصري لم يتجاوز مجرد التصريحات الإعلامية، دون الإشارة إلى أي ردع حقيقي يتجاوز المواقف الكلامية، رغم أن وجود جيش الاحتلال في رفح يتعارض بالفعل مع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية.

الأهمية الاستراتيجية

لدى مصر وإسرائيل مواقف متباينة حول مستقبل محور فيلادلفيا، حيث ترى مصر أن أي محاولة إسرائيلية لتغيير الوضع الراهن تعتبر تجاوزًا للخطوط الحمراء، وبالنسبة للقاهرة يمثل المحور جزءًا من سياسة أمنية أوسع تهدف إلى منع أي تواجد إسرائيلي مباشر على حدودها، وفي 10 يناير الماضي، ذكرت تقارير أن القاهرة رفضت طلبًا من إسرائيل بأن تتولى الأخيرة تأمين منطقة محور فيلادلفيا.

 

 أصبحت القضية أزمة سياسية بشكل متزايد سواء من خلال موجة الغضب المتصاعدة في إسرائيل إزاء ما يراه البعض تخليًا عن أولئك الذين تحتجزهم حماس، أو أزمة مع مصر التي ترفض الوجود الإسرائيلي في محور فلادلفيا

على الجانب الآخر، ترى إسرائيل أن السيطرة على المحور ستؤمن حدودها مع غزة وتمنع تهريب الأسلحة إلى المقاومة الفلسطينية، فإسرائيل ـ التي ما زالت ترى في مصر خطرًا على أمنها رغم اتفاقية السلام ـ تسعى من خلال هذا التصعيد إلى الضغط على القاهرة لتحييد دورها في دعم الفلسطينيين، ولكن هذا الطموح الإسرائيلي يتصادم مع المصالح المصرية، التي ترفض أي تغيير في الوضع القائم، لا سيما مع رفض مصر لأي شكل من أشكال التعاون الأمني المباشر مع إسرائيل في هذه المنطقة بالذات، لا سيما وأن هذا التوتر يعكس أيضًا رغبة إسرائيل في فرض سيطرتها الكاملة على الحدود مع مصر، تعتبره القاهرة محاولة صريحة لتهديدها وإرهابها.

خلافات إسرائيلية

لم تقتصر التوترات المتعلقة بمحور فيلادلفيا على الصعيد المصري ـ الإسرائيلي فقط، بل امتدت إلى الداخل الإسرائيلي حيث ظهرت خلافات واضحة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير دفاعه غالانت، تلك الخلافات جاءت نتيجة تمسك نتنياهو باستمرار السيطرة على المحور، مما أدى إلى تعطيل أي تقدم في مفاوضات تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار مع حركة حماس، وبالرغم من اعتراضات غالانت ووزراء آخرين، فإن نتنياهو لا يزال متمسكًا بموقفه، على اعتبار أن المحور يمثل ذخرًا إستراتيجيًا لأغراض سياسية، لكن هذا يعكس مدى تعقيد المشهد السياسي في إسرائيل، حيث تتداخل الأجندات الأمنية والسياسية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية.

زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، وصف موقف نتنياهو الرامي إلى البقاء في محور فلادلفيا بأي ثمن بأنه "التفاف سياسي لا أساس له"، مؤكدًا ان هذا الموقف يأتي لضمان بقاء نتنياهو في منصبه من خلال استرضاء شريكيه في الائتلاف الحاكم، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، اللذين يقودان حزبين متطرفين يرفضان تقديم أي تنازلات للتوصل إلى اتفاق، وقال لابيد: "محور فيلادلفيا ليس هو ما يزعجه نتنياهو حقا، بل محور بن غفير ـ سموتريتش".

قرار إبقاء الجيش الصهيوني في محور فيلادلفيا لم يلقَ قبولًا في أوساط الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، التي تعتبر أن هذا القرار سيؤدي إلى تأخير فرص التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى مع حماس. هذا التأخير قد يعقّد الأوضاع أكثر، ويزيد من الضغوط على الحكومة الإسرائيلية في الداخل، في ظل تراجع فرص الحلول الدبلوماسية وزيادة التوترات على الأرض، ويرى خصوم نتنياهو أن هذه السياسة التي ينتهجها الأخير تخدم أهدافًا سياسية داخلية أكثر من كونها تلبية للاحتياجات الأمنية الفعلية.

وضع معقد

تقول حماس إن نتنياهو اتجه إلى السيطرة على محور فيلادلفيا وممر نتساريم ــ وهو طريق استراتيجي يقسم غزة ــ عندما كانت المفاوضات في مرحلة متقدمة، الأمر الذي دفعها إلى رفض المقترحات، وكان نتنياهو قد أرغم حكومته على التصويت على إلزام إسرائيل بالاحتفاظ بالسيطرة على محور فيلادلفيا وممر نتساريم، وهو ما كان يُنظَر إليه باعتباره استراتيجية سياسية لاسترضاء أعضاء اليمين المتطرف في حكومته الذين يعارضون أي تنازلات، أصبحت القضية أزمة سياسية بشكل متزايد سواء من خلال موجة الغضب المتصاعدة في إسرائيل إزاء ما يراه البعض تخليًا عن أولئك الذين تحتجزهم حماس، أو أزمة مع مصر التي ترفض الوجود الإسرائيلي في محور فلادلفيا، بالرغم من ذلك فقد رفض نتنياهو مرة أخرى الدعوات لتخفيف قراره بإبقاء قوات الاحتلال في محور فلادلفيا كثمن لاتفاق وقف إطلاق النار، قائلاً إنه من الضروري لإسرائيل السيطرة على ما أسماه "شريان الحياة لحماس".

مع اقتراب الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، تستمر الحرب على غزة، ويبقى الوضع على الأرض معقدًا للغاية، فبينما تواصل القوات الصهيونية تواجدها في محور فيلادلفيا وسيطرتها على معبر رفح الحدودي، يعاني الفلسطينيون في قطاع غزة من تدهور الأوضاع الإنسانية بشكل خطير، لا سيما وأن المعبر يشكل شريان الحياة الرئيسي للقطاع، وتعتمد عليه آلاف الأسر في الحصول على المساعدات الإنسانية والإغاثية، فضلاً عن كونه المنفذ الوحيد للمرضى والجرحى للخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يبقى محور فيلادلفيا نقطة توتر مستمرة بين مصر وإسرائيل، تتداخل فيها الأبعاد الأمنية والسياسية مع تعقيدات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن المتوقع أن تستمر هذه المنطقة في لعب دور محوري في مستقبل العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، وسط تصاعد التوترات والمخاوف من انزلاق الوضع إلى مواجهات أوسع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق