الثلاثاء، 5 مايو 2020

هل يُصلح اليسار ما أفسدته الرأسمالية؟

هل يُصلح اليسار ما أفسدته الرأسمالية؟


 مهنا الحبيل
من أهم المسارات التي نحتاج التوقف عندها: لماذا فشلت دولة الفلسفة الغربية المعاصرة في حماية الطبيعة، ونحتاج أن نُذكّر دائماً بهذا الإشكال الذي يقفز باستمرار، وخصوصاً في البحث الجديد عن القيم الماركسية المقابلة للرأسمالية، بعد دلائل السقوط الإنساني العنيف الذي قادت إليه مبادئ الفلسفة للرأسمالية. والإشارة هنا أن خلاص العالم لن يتحقق بالعودة إلى اليسار الماركسي، ليس لأن اليسار لا يملك قيماً ذاتية لمصلحة الجماعة والشعوب، وحقها في الدولة مقابل الفردانية المطلقة، التي وضعت إنسانها في مواجهة هذا السوق، بعد أن سلّعت الحياة البشرية، ولكن لأن المركز التكويني لكامل الفلسفة اليسارية متحدٌ في جوهر منظومته التي صُنع عليها نظام الدولة، وعلاقة الفرد بالمرجعية المادية الصلبة، وهي مشتركٌ للرؤية الكونية، للفكرة الوجودية اليسارية والليبرالية في الغرب، ولعل نموذج الصين الذي انتقل إلى الفضاء الرأسمالي كلياً، في حياته الاقتصادية ويُديره الحزب الشيوعي ذاته عبر فكره الماوي، يعطينا هذه الدلالة، في وحشية نظام بكين ضد الفرد، كذلك فإن الإرث الماركسي، في نسخة لينين وستالين العقائدية، لم يقدّم أي فرص حياة عدالة فاضلة للإنسان المعذّب.
ولكن ذلك لا يعني أنه لم توجد محاولات يسارية، وخاصة في عالم الجنوب، كانت تحاول المقاربة بين الفكرة اليسارية من حيث حقوق الجماعة ورعاية الدولة، مع بقاء إرث العائلة واستدعاء الرابط الوجداني، وإحياء القيم الدينية والروحية الأخلاقية. ولنلاحظ هنا أن هذا المسار قد قُطع الطريق عليه، ولو أمعنا النظر، لوجدنا أن هذا التدهور والسقوط بوقف التصالح مع الروح وأخلاقيات الطبيعة قد ورد إلى عالم الجنوب اليساري من قلب الغرب. وذلك حين تحولت أزمة الجدل في تحديد ماهية الإنسان، وانحدرت الليبرالية الغربية، في مواجهة السؤال المغلوط في أصله، وهو كيف نواجه صراع المرأة مع الرجل، وصراع الذكر مع الأنثى. وبالتالي عادت الرؤية الكونية المنحرفة، لتحكم هذا الموقف الفلسفي، الذي يترتب عليه تحديد  
معالم العلاقة الإنسانية للأسرة في العالم. فهذا السؤال افترض عنصر جدل انفعالي، يقوم على حتمية الصراع بين الرجل والمرأة، فكيف تُوجد حلاً لمعادلة محسومة، وهذه الرؤية الكونية للوجودية في تطوراتها الأخيرة، جعلته حتمية تاريخية!
حين انفجر هذا السؤال الذي نحّى فلسفة الروح والأخلاق القيمية التي تسير على معادلة نَفْس ومشاعر وجود، تضامنية في أصلها بين المرأة والرجل، بحكم الإيمان الفطري، وتاريخ وجود البشرية الذي اقتضى في رسالة الخالق، وطبيعة تكوينه للحياة الأرضية، ودلائل الاختلاف بين الذكر والأنثى، فالسؤال الصحيح هو كيف تُنظّم حياة المرأة والرجل، بإعادة إدارة الاختلاف البيولوجي إلى سر طبيعته، الذي يحوي قوة للمرأة، لا حياة ولا وجود ولا سكن ولا طمأنينة للرجل دونه، وهي كذلك تحظى بهذا السكن الوجداني والمتعة، لا تهيئةً للرجل لمآربه، كلا، بل لكونهما عنصري السيادة الفطرية في الأرض، سيادة ترعى الطبيعة وتقيم موازين العدالة، من خلال مرجعية الامتنان الكبرى للخالق. وهنا تبرز حلقة الفراغ الذي لم تستطع المدرسة الأخلاقية في الليبرالية المعاصرة الخروج منه، ومنه جدل كارين باردسلي، الباحثة في الأخلاق البيئية، فقد وصلت بالفعل إلى معادلة التدمير الحداثي الرأسمالي الممنهج للطبيعة. ولننتبه هنا، حيث لا يوجد ذكر للتدمير الآخر، في طبيعة العلاقة الإنسانية التكاملية بين الرجل والمرأة!.
لقد واجهت باردسلي معضلة في سؤال المركز التشريعي، للحماية الأخلاقية للطبيعة، وطرحت بشجاعة أن المؤمنين (يجب أن نحدد هنا معيار الإيمان الأخلاقي وانعكاسه في سلوك هذا المؤمن) يملكون جوهر امتنان منظّم للطبيعة، فالطبيعة الموهوبة هي منحة الله للإنسان في معتقدهم، فهنا تعيد حركة التشريع الفلسفي والأخلاقي إلى التعامل مع الواهب، ولكن الواهب، في كلتا الفلسفتين، الوجودية الليبرالية وحداثتها المادية، واليسارية ومرجعيتها الماركسية، لا وجود له، فكيف تتحول الطبيعة الكتلة المادية الى هِبة وواهب، نُشرّع لها رؤية أخلاقية قانونية ودستورية، والأهم من ذلك أنها تعتمد على إيمان داخلي مطمئن في قلب العالم البشري. هنا نعود إلى المأزق الماركسي، وكيف انحدر الجنوب اليساري إلى حفرة الليبرالية الغربية ورؤيتها الكونية، فتحول الاهتمام من دعم ضمير العائلة والطفولة التي تحتضنها المرأة والرجل.
وتورّط العالم الجنوبي، حين استنسخ، تحت قهر التسليع الرأسمالي، فكرة الجندر التائهة العبثية،  
لا روح ولا حياة أخلاقية بين المرأة والرجل، إنما الإنسان مجرّد روبوتات مادية، يُشرّع لهم لتفريغ النزوة، وليس لحب الأسرة، ورومانسية المشاعر الوجدانية، واستشعار الامتنان الذي يُحفزهم للإحسان بينهما بالعدل والرحمة من الواهب الخالق.
والكتلة الحرجة في الأزمة الفلسفية متصلة بليبرالية السوق، ومنهج إنتاج مسار بشري (حر) يسقط القيود الأخلاقية، فيُصنع الجسم الجديد لهذا العالم، فيما يسعى إلى تكريس منظومة أخلاقية في الحقوق الدستورية، وصناعة الدولة المدنية التي تحترم الضمير الفردي الأحادي، وتُنفّذ كل تشريعاتها لأجله، لكن هذه الوسائط فشلت موازينها، ليس في كل منظومتها القانونية، ولكن في الهدف التكاملي للحياة. وهنا نشير إلى أن هدف بعض الباحثين الغربيين عن أزمة أخلاق الامتنان، من حيث الجوهر السطحي، نبيل، فهم يسعون إلى مفهوم العدالة والرحمة للكائن الإنساني، لكنهم يفشلون مجدّداً، بما فيهم اتجاه المدرسة الأخلاقية للفلسفة الليبرالية، لأن هذا السطح يعود من جديد ليصطدم بالجوهر الأصلي، وهو نفي الهبة التي قدمها الواهب.
وقد اكتشف العالم بعد وباء كورونا، وعبر شواهد عدة، عودة أكبر لحركة الطبيعة والحيوان والخضرة إلى الأرض، وانخفاض الغازات المضرة، وظهور الأحياء التي اختفت في الإبحار أو التجول على الأرض، وقد شوهدت في مساحات جغرافية متعدّدة، وهو ما يعني أن الآثار التدميرية للصناعة المعاصرة التي قامت على روح السوق الشرس، منتج مؤكد لمآلات الرؤية الكونية الخاطئة التي نعيش اليوم احتلالها الضمير العالمي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق