شادي الذي ابتلع لفافة من جذور الإرهاب
دعونا نفترض أن عبد الفتاح السيسي لا دخل له بحبس المخرج الشاب، شادي حبش، ودعونا نفترض كذلك أنه لا علم له بحبسه 777 يومًا، من دون محاكمة، لأنه قام بإخراج أغنية تسخر من السيسي وتنتقده.
دعونا نفترض أن كل هذا التنكيل الوحشي بالشاب شادي، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في زنزانته، كان يتم بغير أمر أو توجيه من جنرال الحكم، وأن الأمر لم يكن سوى نوع من التفاني من الشرطة والنيابة، مجاملةً للزعيم الذي لم تغضبه أغنية "بلحة".
سنفترض كل ما سبق، حتى نصل إلى الحقيقة المجسّدة على الأرض: شادي مات، أو قُتِل حرمانًا من الإسعافات، وبالمخالفة لقوانينهم المنظمة للحبس الاحتياطي. مات مجاملة من السجانين للحاكم.
وأن قصة موته المفجع صارت الخبر الأول في صحافة العالم، وحديث "السوشيال ميديا"، وأنها، بالضرورة، وصلت إلى مسامع الجنرال، فماذا هو حاصل؟
على ضوء فرضية أنه لا يعلم، فإن عبد الفتاح السيسي لو كان إنسانًا طبيعيًا، وعلم بمصرع شاب في الرابعة والعشرين من عمره، مجاملةً له، ففي هذه الحالة من المتصوّر أنه سيصاب بالغم والحزن، ويشعر بالأسى، ويداهمه إحساس بالذنب، يجعله يحمّل نفسه جزءًا من المسؤولية عن إنهاء حياة شاب ظلمًا وقمعًا واستبدادًا، وهذا الأمر سيدفعه، بالتأكيد، إلى إصدار تعليمات صارمة بالتحقيق في الواقعة ومعاقبة المتسببين فيها، وربما سيعتذر لأسرة الشاب، وللشعب، قبل أن يدخل في طور اكتئاب، ليس على الطريقة اليابانية التي تدفع المسؤول إلى الانتحار اعتذارًا عن خطأ في نطاق مسؤوليته، وإنما بإعلان موقف يفهم منه الحزن والتعاطف.
أما وأن شيئًا من ذلك لم يحدث، ولم يجد نبأ موت شادي مساحةً تذكر في كل صحف السيسي ومواقعه وشاشاته، كما أنه لم يصدر بيان يتيم من وزارة الداخلية أو مصلحة السجون، ذرًا للرماد في العيون، فإننا نجد أنفسنا أمام الافتراض الثاني: إن كل ما جرى مع شادي حبش، منذ اعتقاله وحبسه احتياطيًا، كان بعلم عبد الفتاح السيسي وتعليماته، أو على أقل تقدير تحت إشراف مباشر من الدائرة الصغيرة المحيطة به، انتقامًا منه لأنه أخرج أغنية للمطرب رامي عصام قبل أكثر من عامين تسخر من السيسي.. كما أن التنكيل به لم يكن اجتهادًا من الشرطة والنيابة العامة، بدليل ما كشفه الشاب الشهيد في تدويناته التي قال فيها إن تجديد حبسه كل 45 يومًا كان يتم بشكل أوتوماتيكي، من دون أن يسأله أحد عن اسمه أو ينظر في وجه، أو حتى يلقوا نظرة على أوراق اتهامه.
إذن، القصة من الألف إلى الياء هي انتقام شخصي مباشر وصريح من عبد الفتاح السيسي من كل من ارتبط اسمه بأغنية "بلحة"، فيسلك وكأنه واثق من نجاحه في القضاء التام على كل خلايا الغضب والمقاومة والممانعة لدى الجمهور الذي يمارس إرهابه عليه، فلا يقيم اعتبارًا أو يحسب حسابًا لأي شكل من أشكال الاحتجاج، ذلك أنه بات مطمئنًا إلى "تعقيم المجتمع"، فلم تعد ثمة احتمالية لإنجاب ثورة أو انتفاضة جديدة، أو استعادة الثورة المجهضة عافيتها وقدرتها على الحركة، ولم لا ولديه تجربة ست سنوات من العجز الثوري الكامل، استسلم لها المجتمع منذ سحق آخر نبض، وحرق آخر ملمح من ملامح الثورة، بتنفيذه مذابح رابعة العدوية وأخواتها، وسط تصفيق حاد وتهليل من بعض من يكتوون بإجرامه الطائش الآن.
في جريمة تصفية شادي، وجد النظام أن الميديا العالمية تشتعل بالحديث عن فنان شاب أجهزت عليه السلطة، على نحو خطف الأضواء من دراما الإرهاب التلفزيوني الهابطة، فكانت تلك الاستعادة، المكرّرة حد الملل، لعناوين الحرب على الإرهاب.. مصر تحارب الإرهاب نيابة عن هذا العالم الجاحد المنشغل بوفاة سجين واحد، وعلى عجل يتم تجهيز الخبر: مصر تقتل 18 إرهابيًا في سيناء.. مصر تحارب نيابة عن البشرية لاقتلاع جذور الإرهاب.
سيناريو ركيك وخيال عقيم لا يصدقه صاحب عقل وضمير، لا يسنده المنطق، ولا يدعمه سجل حافل من بيانات الكذب الرسمي الذي أصبح له ظهير من الثوار المتحولين من "كلنا خالد سعيد" إلى "كلنا في خدمة خالد صفوان"، ضابط التعذيب الشهير في فيلم "الكرنك"، تلك البيانات التي تصدر عقب كل كارثة، محملة بغبار الرواية الساقطة، التي جعلت من الشهيد خالد سعيد مجرد قتيل ابتلع لفافة بانجو فمات، ولن تتورع عن محاولة إقناع الناس بأن شادي حبش انتحر عن طريق ابتلاع لفافة جذور إرهاب.
كل يوم يمر يظهر أن هذا الجالس في السلطة لم يصعد إلى العرش إلا محمولًا على أكتاف إرهاب صنعه على عينه، وأبرم معه اتفاقًا وجوديًا، يدفع ثمنه الضباط والمجندون الصغار، بالقدر ذاته الذي يدفعه المواطن من دمه وماله وحريته.
جذور الإرهاب ليست فقط في كهوف جبال سيناء، لكنها تعشش في قصر الاتحادية أيضًا، وتتغذى وتنمو وتتمدد بدم شادي وعشرات الآلاف قبله، من أبناء مصر العالقة بين دائرتي دم متصلتين: حكم غشوم وإرهاب غاشم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق