قصة موسى: معالم في الصراع بين الحق والباطل
المواجهة مع الطاغوت -1
د. ليلى حمدان
2 مايو، 2020
انتقل موسى عليه السَّلام إلى حياة التَّكليف وتحمُّل أمانة التَّبليغ بعد أن اصطفاه الله سبحانه لهذه المهمَّة أثناء عودته لمصر، وانطلق موسى وهارون عليهما السَّلام معًا لمواجهة أعتى فرعون عرفته الأرض في ذلك الزَّمان وكان لهذه المواجهة أصول وتبعات ونتائج يجدر بنا تسليط الضوء عليها لأنَّها ذات المواجهة التي تتكرَّر بين الطَّواغيت والجماهير المسلمة عبر مختلف العصور والأزمنة.
أصل الصراع: دعوة التوحيد
إنَّ الدَّرس الأوَّل الذي نستخلصه من قصة المواجهة بين موسى والطَّاغوت فرعون هو أصل الصراع وطبيعته، فقد كانت رسالة موسى وأخيه هارون عليهما السَّلام واضحة تمام الوضوح، إنَّها دعوة التوحيد الخالصة التي لا تقبل المساومة، فدخلا عليه في قصره تدفعهما قوَّة الإيمان والحقِّ الذي يحملانه يشدُّ الأخ أزر أخيه، وهما يعلمان يقينًا أنَّ الله معهما، يظهر ذلك في الطَّريقة التي خاطب فيها موسى فرعون في قصره، فقد طرق موسى باب القصر وطلب من البواب أن يأذن له بالدخول على أنَّه رسول ربّ العالمين. فكان وقع هذه الكلمات عظيمًا على البوَّاب وعلى فرعون الذي أصابته حالة فزع ودهشة.
وحين دخل موسى على فرعون كان صريحًا في تبيان رسالته دون لجلجة أو تورية، فدعاه إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى اتباع أمره كما طالبه بتحرير أسرى بني إسرائيل المستضعفين ومنحهم حرية عبادة الله. وكان الرد المتوقع من متجبّر في الأرض الاستكبار وازدراء رسالة النبيِّين، واستهجن فرعون أن يكون هناك إله غيره بكلِّ حماقة، وقال لموسى: ﴿قَالَ أَلَمْ نُربّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ لكنَّ موسى أوتي قوَّة البيان والحجَّة والصدق، فأجابه: ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي ربّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشعراء: 16-21).
أهمية الدليل والحجة
واشتعلت معركة العقيدة بين موسى وفرعون وظهرت قوة الدليل والحجة في الحوار الذي دار بينهما، وظهر معه الحقُّ منتصرًا قال تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الشعراء: 23-28) .
وحين انهزم فرعون أمام قوة الحق الذي يواجهه به موسى قام مستكبرًا ينادي في النَّاس قال تعالى: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا ربّكُمُ الأَعْلَى﴾ (النازعات 23-24)، وقال تعالى: ﴿وَقَالَ فرعون يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (القصص:38).
ثمَّ تحوَّل فرعون إلى لغة التَّهديد والوعيد، قال تعالى: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ (الشعراء: 29-33).
فقابل موسى هذا التَّهديد بآيات الله، وأرى فرعون العصا تتحوَّل لثعبان ضخم مخيف وأدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالثَّلج لها نور يتلألأ، ثمَّ أعادها فرجعت كما كانت بقدرة الله. ففزع فرعون ودبَّ الخوف في قلبه بعد أن رأى معجزتين أبهرتا العقول والأبصار.
المكيدة والمكر من أساليب الطغاة
ومع أنَّ فرعون ذهل من آيات موسى إلَّا أنَّه عاند وكفر، وجمع كيده ومكره، فلم يكفه تهديد موسى بالسِّجن والتَّعذيب والأذى وهو أسلوب يتقنه كلُّ طاغوت، بل استعان بوزيره هامان للإيقاع بموسى، فزيَّن له الوزير نوايا الشَّرِّ والباطل فأصبح فرعون أكثر إصرارًا على المضي في أذيَّة نبيِّ الله وتشويه دعوته فقال تعالى: ﴿قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ (الشعراء: 34-35)، واقترحوا عليه أن يجمع سحرته ليهزموا موسى بسحرهم أمام الملأ قال تعالى: ﴿قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ (الأعراف: 111-112).
وكانت مصر بلاد السحر في ذلك الزَّمان، وأغرى فرعون السحرة بالمال والمنصب وبمرتبة مُقرَّبة خاصَّة منه إن هم غلبوا موسى قال تعالى: ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفرعون أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَربّينَ﴾ (الشعراء: 38-42) .
وقال تعالى: ﴿فَتَوَلَّى فرعون فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثمَّ أَتَى * قَالَ لَهُم موسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ (طه: 60-64).
ولإنَّ الحدث عظيم وتترتَّب عليه آثار على سيادة فرعون على الجماهير كان موعد اللقاء يوم عيد لفرعون يجتمع فيه مع الرَّعيَّة في وضح النَّهار من الضُّحى، قال تعالى: ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا موسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ (طه: 57-59).
وممَّا يجدر بنا تسليط الضَّوء عليه في هذا المقام، بداية موسى في مواجهة الباطل أمام الجمع الغفير من النَّاس، حيث توجَّه نحو السَّحرة وزجرهم عن تعاطي السِّحر الباطل ونهاهم بشكل مباشر عن هذا المنكر، فقال تعالى: ﴿وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ﴾ (طه:61)، وكانت تلك الخطوة أوَّل صيحة حقِّ تصدَّعت لها قلوب السَّحرة، ﴿قَالُوا يَا موسى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ (طه: 65-66)، فسحروا أعين النَّاس وألقوا حبالهم وعصيَّهم يردِّدون: ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ وتخيلت الجماهير تلك العصي والحبال كأنَّها حيَّات وثعابين تتحرك وتسعى، وأمام هذا المشهد أوجس خيفة موسى كما وصفه القرآن، خشية أن ينفتن النَّاس بسحر السَّحرة، ولكنَّ الله سبحانه ثبَّته وأوحى إليه أن ﴿لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى﴾ (طه:68) فألقى العصا لتلقف ما يأفكون، ووقع الحقُّ وزهق الباطل، وذهل السَّحرة وسجدوا على الفور إيمانًا وتصديقًا، وانقلب السِّحر على السَّاحر وكان نصرًا مؤزَّرًا.
وفي هذا المقام علينا أن ننبِّه لأساليب فرعون التي انتهجها لردِّ الحقِّ الذي مع موسى، فقد هدَّد موسى وقال: ﴿لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ﴾(الشعراء: 29)، وحين استمر موسى بتبيان الحقِّ وظهر للحضور قوَّة حجَّته، انتحل فرعون ثياب الواعظ، والدَّاعي للخير، فقال يضلّل الجماهير: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَاد﴾ (غافر: 26). كما ظهرت طبائع فرعون المستبدِّ حين قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: 29).
واستعان فرعون بسلطانه وجبروته وتعداد أملاكه وسلطاته وازدرى موسى عليه السَّلام واحتقره قائلًا: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ (الزُّخرف: 51-52).
وهذا هو ذات المنطق الذي يتعامل به الطَّاغوت في كلِّ زمان ومكان، قال تعالى: ﴿أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾ (الذَّاريات: 53).
يقلبون المصطلحات فيصبح الحقُّ باطلًا والباطل حقًّا، ويعملون على تقبيح صورة أصحاب الحقِّ والتَّشنيع على دعوتهم، في محاولة لتسويغ الباطل بكلِّ الأساليب والطُّرق الممكنة.
موقع الجماهير والثلة المؤمنة في مشهد الصراع
ومِن الدُّروس التي يجدر الإشارة إليها في قصة موسى عليه السَّلام مع فرعون، أنَّ الباطل ينتفش ويعمل على سحر عيون الجماهير وإرهابهم، حتَّى يظنَّ الكثيرون أنَّ الغلبة له، لكنَّه حين يتواجه مع الحقِّ فكأنَّما تواجهت النَّار مع الماء، فينطفئ ويهدأ شرّه، وتزول قوَّته ويتبيّن ضعفه، فيخضع لهذا الحقِّ من ينشده، ولا يعانده إلا من يأباه ويحاربه قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الحقّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾ (الأعراف: 117-119). وقال تعالى: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِربّ الْعَالَمِينَ * ربِّ موسى وَهَارُوْن﴾(الأعراف: 120-122).
لقد قدَّم السَّحرة أعظم درس في اتّباع الحقِّ أمام فرعون الطَّاغية، رغم معرفتهم بما يتوعّدهم إن هم أعلنوا إيمانهم للملأ واعترفوا بنبوة موسى، وهذا يدلّ على أهمية بقاء ثلّة تعلن إيمانها وتستعلي بعقيدتها ولا تهادن في الحقِّ، قال فرعون لهم: ﴿آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾، ولجأ فرعون من جديد لوسيلة القتل والتعذيب والتنكيل فكان ردّ السحرة عظيمًا أيضًا بثباتهم ليعيد هذا الثَّبات فرعون لحجمه الحقيقيّ أمام الجماهير: ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (طه: 72-71).
لقد كانت هزيمة كبرى لفرعون المستكبر أمام سحرته وأمام الجماهير، وإنَّ موقفًا واحدًا في حياة هؤلاء السَّحرة رفعهم لمقام عال جدًا في مراتب المؤمنين الأتقياء عبر العصور والأزمنة، فإنَّما أعمار العباد تعدّ بالمواقف لا بالسنوات.
ثمَّ مهما علا صوت الباطل والظلم وتمكن الطاغوت، تبقى هناك دائما طائفة مؤمنة لا تتهاون في أمانة الإيمان، فقد عرفنا في قصة موسى مؤمنًا من آل فرعون يكتم إيمانه ويساعد موسى على الفرار، ودافع عنه في موقف خطير لا يتجرَّأ أحد على الظُّهور فيه أمام طاغية: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءالِ فرعون يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ ربّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن ربّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فرعون مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: 28-29)، ﴿وَقَالَ الَّذِي ءامَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثمَّودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءامَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ (غافر: 30-35).
كذلك آمنت ماشطة بنت فرعون، وكان ثمن إيمانها أن حرقها الطاغية في النَّار مع أبنائها، وهي التي قال رضيعها قبل أن تقتل: “اصبري يا أماه فإنك على الحق”، ثمَّ ألقيت في التنور مع ولدها ولم تحد عن الحقِّ لحظة واحدة. وهو نموذج سامق لامرأة آثرت الثبات والتضحية بفلذات أكبادها على أن تداهن في الحق.
وإنَّ أبرز مثال لهذه النَّماذج المشرقة لمؤمنين ثبتوا وصدعوا بالحقِّ في عقر دار الظَّالمين، آسيا زوجة فرعون نفسه، لنشاهد كيف اجتمعت المرأة الصَّالحة المؤمنة في بيت واحد مع أكبر طاغوت في الأرض، وثبتت على إيمانها، فكان جزاؤها أن جعلها الله من نساء العالمين، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ” كَمُلَ من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون”.
ولنا أن نتخيَّل امرأة بمثل إيمان آسيا مع رجل بمثل كفر فرعون، كيف لهما أن يجتمعان تحت سقف واحد، وهذا مثال آخر لمعركة صراع بين الحقِّ والباطل دارت فصولها في بيت الزَّوجيَّة، وانتهت بثبات آسيا وانتصارها فحين علم فرعون بإيمانها عذَّبها أشدَّ العذاب حتَّى ماتت، ولم تتراجع وهي تردّد: ﴿ربّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فرعون وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (التحريم: 11). فأي درس لقَّنته آسيا لنساء الأرض، وأي مكانة عالية كانت تسعى لها رخصت لأجلها روحها وضحت معها بكلّ شيء ولم تلتفت لثروة زوجها وسلطانه.
ذلك أن قضايا العقيدة لا تقبل المساومة.
حين يبلغ الاستضعاف أشده تزداد آيــــات العذاب
ضاعف فرعون أساليب القهر والغلبة والسُّلطان، فأخذ يبطش ويفتك ببني إسرائيل الذين آمنوا بموسى عليه السلام واتَّبعوه، وحين راجع بنو إسرائيل نبيَّهم أوصاهم بالصبر وبشَّرهم بالنصر والتمكين.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فرعون أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى ربّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 172-192).
فكان الصبر واليقين مرحلة ضروريَّة قبل بزوغ فجر النصر.
وتمادى فرعون في تكذيب موسى وإيذاء بني إسرائيل، وتزايد فساده في الأرض وظلمه وطغيانه، فأنذر موسى فرعون وقومه بأنَّ عاقبة هذا كله أن ينزّل الله عليهم العذاب الشَّديد، وأرسل الله آيات العذاب ليخوّفهم ويذكّرهم ويحذّرهم من عواقب طريق الكفر.
وكلما أصابهم البلاء والضرّ لجأوا لموسى فيدعو الله أن يرفعه عنهم ثمَّ ما يلبثوا أن يعودوا لكفرهم وغيّهم. وتوالت آيات العذاب عليهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فرعون بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثمَّرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِموسى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ (الأعراف: 130-133).
وأصابهم القحط والجدب فلا زرع لهم ولا ينتفع بضرع. ونقص الثَّمرات والطُّوفان فأجهدهم الجوع وأصابهم الضيق الشَّديد. وأرسل الله عليهم الجراد والقُمَّل والضفادع التي كثرت حتَّى نغَّصت عليهم عيشتهم. وآية الدم حيث صارت مياه آل فرعون دمًا فاستحالت معها المعيشة وتعذَّرت. قال تعالى: ﴿وَمَا نُرِيهِم مِنْ آيةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَر مِن أُخْتِهَا وأَخَذنَاهُم بالعَذَابِ لعلّهُم يَرْجِعُون﴾ (الزخرف: 48).
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ (الإسراء: 101)، وقال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا موسى ادْعُ لَنَا ربّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَك لَئِنْ كَشَفْتَ عنًّا الرّجْزَ لَنُؤْمِننَّ لَكَ وَلنُرسِلنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيل﴾ (الأعراف: 134).
وتعدَّدت التَّفاسير في “الرجز” وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنَّ المراد به الطاعون، وكأنَّهما أخذاه من حديث أسامة بن زيد مرفوعًا: “الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل – أو على من كان قبلكم – فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه” رواه مسلم، وهي آية عذاب أخرى.
ويجدر الإشارة في هذه المرحلة من قصة موسى إلى دعاء موسى وهارون على أعداء الله فكانا يقولان: ﴿ربّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾ (يونس: 88-89)، واستجاب الله تعالى لهما فمسخ أموال أعدائهما فصارت حجارة على ما قيل، وهذا باب وجب الاجتهاد فيه في معركة الجماهير المسلمة مع الطغاة بتكريس الدعاء عليهم.
“تمايز الفسطاطين” قدر الأمة في كلّ صراع ونهايته المواجهة
بعد أن أقيمت الحجّة وفرقت الأدلة والبراهين بين دعوتي الحقّ والباطل، تمايزت الجموع، بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، فاجتمع مع موسى بنو إسرائيل ومن آمن بدعوته وكانوا قلّة مقارنة مع أهل مصر، قال تعالى: ﴿فَمَا ءامَنَ لِموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فرعون وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فرعون لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ (يونس: 83). واجتمع مع فرعون أهل الكفر وأتباعه من الظالمين، ذلك أنه: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (الزُّخرف: 54).وبعد طول صبر ومصابرة أوحى الله لموسى وأمره بالخروج ببني إسرائيل من أرض مصر ليلًا والذَّهاب بهم إلى أرض فلسطين، وساروا في طريق البحر الأحمر، وكان هذا الخروج كالصاعقة على فرعون، فجمع قوَّاته وجيشه العرمرم وتوجَّه يطارد موسى ومن معه حتى وصلوا إلى البحر. وكان موقفًا عصيبًا، فالبحر أمام موسى ومن معه والعدو خلفهم يريد الفتك بهم، وضجَّ حينها بنو إسرائيل بالعويل والصياح يردِّدون ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾. قال تعالى يصف هذا الموقف: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾(الشعراء: 61).
قبل بزوغ فجر النصر تبلغ القلوب الحناجر
طريق المواجهة بين الحق والباطل يصل دائمًا إلى محطة تنقطع فيها السبل، ويظنّ الناس بالله الظُّنون، وهو ما نراه في قصة موسى مع فرعون فقد واجه هذا الطاغية وجيشه موسى وقومه عند البحر، ولم يكن لهم من طريق يسلكونه للفرار من ظلمه، ولكن موسى لقَّننا درسًا كيف تنتصر الروح على المادة وكيف ينصر الله سبحانه عبده في أشد الظروف حين يتعلق به، تسقط كلُّ الأسباب والقوى ولو بلغت القلوب الحناجر ولو وصل اليأس منتهاه، قال موسى: ﴿كَلاَّ إِنَّ مَعِي ربّي سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء: 62). فجاء المدد الإلاهيُّ للعبد الذي أجاد الانطراح على عتبات الرُّبوبيَّة، وأوحى الله لموسى أن اضربّ بعصاك البحر، تلك العصى التي كان يتوكَّأ بها ويهشُّ بها على غنمه هي ذات العصا التي أرهب بها فرعون وأذهله حين تحوَّلت لثعبان ضخم أزهق الباطل وهزم السحر، وهي نفس العصا التي ضرب بها موسى البحر فانفلق بإذن الله تعالى اثني عشر طريقًا في قلب البحر، ومشى موسى وقومه إلى داخل البحر بين جبال من الماء، على أرض يابسة بأمر الله، آمنين من فرعون وجنوده، لكن سبيل النَّجاة هذا جعله الله سبحانه فقط لأهل الإيمان ومن اتَّبع موسى، فحينما تبعهم فرعون وجيشه عاد البحر لما كان عليه وأطبق عليهم فأغرقوا أجمعين.
وهنا وصلت قصة موسى وفرعون لأعظم درس للأمم المتتالية.. لقد اختفت كل أملاك وقصور وقوى فرعون، وتحوَّل لعبد ذليل حقير مهين، وسقط معه كبرياؤه وكبره، فأعلن إيمانه بالله الذي أصرَّ على الكفر به رغم كلّ الأدلة والبراهين والحجج الدامغة، فقال تعالى يصف لنا خضوعه للحقِّ لمَّا غرق في يمِّ كفره: ﴿فقال آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسلَّمينَ﴾، ولكن ما فائدة الإيمان حين يغرغر صاحبه!! قال تعالى: ﴿ألآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ (يونس: 90- 92).
وكانت نهاية الباطل في يوم مشهود في تاريخ العاشر من شهر محرم، فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خاصًّا من أيَّام السنة، فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: قَدِمَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: “ما هذا اليوم الذي تصومونه؟” فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “أنتم أحقُّ بموسى منهم فصوموا”.
ويجدر الإشارة إلى أنَّ يومًا مشهودًا كيوم هلاك فرعون، كانت فيه قلوب جميع المؤمنين مع موسى ومنها قلب آسية قال ابن كثير: “حينما كان الفريقان مجتمعين كانت امرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه فمن رآها ظنَّ أنَّها إنَّما ابتذلت للشفقة على فرعون”. وهكذا تجتمع قلوب المؤمنين دائمًا على الحقّ وتتماسك بالتواصي بالدعاء والصبر.
شروط قبول التوبة
قال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فرعون وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي ءامَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسلَّمينَ * ءالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس: 90-91).
إنَّ إعلان فرعون توبته وإسلامه في تلك اللحظة الحاسمة، لم ينجيه، وفرعون لم يقلها عن اعتقاد إنَّما قالها ليخلص من الغرق قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (النساء: 18)، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ (غافر: 84-85).
ثمَّ جاء دور البحر فلفظ جثة فرعون ليصبح آية وعبرة لمن يعتبر. وليدرك جنود فرعون أنَّ ملكهم قتل شرّ قتلة حين عصى الله ربَّ العالمين. وهي آية بقيت لهذا الزَّمان ليعتبر أهل الأرض. وكم من الآيات يغفل عنها النَّاس!
الغلبة للحق مهما طال ظلام الباطل
وبعدما طالت فصول المواجهة بين موسى وفرعون، أَذَّن الله سبحانه بالنَّصر وأورث بني إسرائيل الأرض حين وقفوا في صفّ الحقّ قال تعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ (الدخان: 25- 29).
وكانت الغلبة لدين الله ولم يعد للطَّاغوت المتجبّر في الأرض من أثر سوى جثة هامدة تشهد لها الأجيال بالهزيمة. وإنَّ هذه الهزيمة لهي مصير كلّ طاغوت مهما بلغ من القوَّة والتمكين.
وعلى الجماهير أن تعي هذه القاعدة تمام الاعتقاد، فلن يضرَّهم بإذن الله ظلم ولا طغيان ولا مؤامرات ولا نفاق إن هم استعانوا بالله واستمسكوا بحبله.
وما ينبغي أن يستحضره المسلمون أنَّ الغلبة لهذا الدين عاجلًا أم آجلًا بوعد من الله حقّ، وأنَّ عليهم أن يحملوا همَّ الاستقامة واتّباع أمر خالقهم، ويحفظوا تعاليم الإسلام وعقيدته طول حياتهم في السرَّاء والضرَّاء ومهما اشتدَّ الابتلاء، وأن لا يكلُّوا من الدعاء والتضرُّع لله فإنَّ الأمر كلّه لله. وإنَّما يأتي النَّصر بعد تمييز وتمحيص للقلوب وزلزال وابتلاءات. وأن يدركوا تمام الإدراك أنَّ معركة الحقِّ والباطل تستوجب الصدع بالحق وتبيان معالمه والتزام أوامر الله والبذل والفداء والسعي والاجتهاد، ولو كانت التضحيات جسام، ولو كانت بالنفس والنفيس، فما عند الله أجلّ وأبقى، وبهذا انتصر موسى وبنو إسرائيل على فرعون الطاغوت وجنوده بعد كلّ ما مرّ بهم من استضعاف وعدوان.
ولكن، لم تتوقف قصة بنو إسرائيل التي انطلقت من قلب الاستضعاف إلى قمَّة الانتصار والتَّمكين، بل كانت لها فصول بعد ذلك يجدر بنا قراءة معالم الحق والباطل فيها، وهو ما سنتناوله في القسم الثالث والأخير من قصة موسى عليه السلام. لعلَّها تكون ذكرى تنفع المؤمنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق