من وحي الانقلابات العـربية
عبد الله العمادي
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قام في يوم جمعة، وخطب فقال: إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا. فلم يرد عليه أحد، على خلاف ما كان عليه الناس في عهد الخلفاء الراشدين. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد أيضاً ! فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، لكن هذه المرة، قام إليه رجل ممن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا والفيء فيئنا، ومن حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا.
بعد الصلاة، طلب معاوية الرجل وأجلسه معه على كرسي الحكم، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال:
أيها الناس، إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد عليَّ أحد، وفي الثانية فلم يرد عليَّ أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله – وأشار إلى الرجل – وقال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: سيأتي قوم يتكلمون، فلا يُرد عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة ـ فخشيتُ أن يجعلني الله منهم. فلما ردّ هذا عليّ أحياني، أحياه الله، ورجوت ألا يجعلني الله منهم.
التغيير نحو الأفضل عبر صناديق الانتخابات الديمقراطية، يبدو ليس هو الأسلوب الناجع في عالم عربي، ربما يحتاج لمزيد وقت كي تكتمل الصورة الكاملة للنظم الديمقراطية الحديثة في ذهنه، من بعد وصوله أيضاً إلى درجة معقولة من النضج والوعي وامتلاك الإرادة
كان الصحابة الكرام والتابعين من بعدهم، لا يتأخرون لحظة في انتقاد أي أمر ليس فيه نص من القرآن، أو لم يقل به الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – ولو كان الأمر أو الفعل من طرف الخليفة نفسه، يواجهونه في الطريق أو المسجد أو البيت إن استدعى الأمر. وعلى رغم أن مثل تلك المشاهد والقصص لم تدم طويلاً، لكنها كافية وافية لتأليف مناهج في القيادة والإدارة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أعجب، أنه بالمقابل كانت ردود أفعال الخلفاء يومها طبيعية جداً، فلا تعصب ولا تشنج ولا نفور من المنتقدين، بل لا اعتقالات سياسية وتغييب في غياهب السجون سنوات طوال، أو قمع وتصفية، سواء كانت مادية أم معنوية.. وهكذا استمر الوضع على ذاك النهج حيناً من الزم، حتى انتكسنا إلى يوم الناس هذا..
انقلابات الربيع العربي
مقدمة تاريخية فيها جانب بسيط من جوانب الحكم الرشيد الذي فقدته الأمة في كثير من أقطارها، والتي تحاول منذ عقود طويلة العودة إليه بصورة وأخرى، رغم العقبات والحواجز التي تزداد أكثر فأكثر. وقد دفعتني أحداث تونس الجارية، إلى استدعاء بعض مشاهد الربيع العربي كأبرز محاولات العودة للحكم الرشيد المفقود منذ الخمسينيات من القرن الفائت، فكانت أبرز تلك المشاهد المعاصرة والحاضرة بالأذهان، مشهد تصفية محمد مرسي – رحمه الله – أو الثورة المصرية إن صح التعبير، وصولاً إلى أحداث تونس الجارية.
يمكن القول بعد كل تلكم الأحداث إلى أن التغيير نحو الأفضل عبر صناديق الانتخابات الديمقراطية، يبدو ليس هو الأسلوب الناجع في عالم عربي، ربما يحتاج لمزيد وقت كي تكتمل الصورة الكاملة للنظم الديمقراطية الحديثة في ذهنه، من بعد وصوله أيضاً إلى درجة معقولة من النضج والوعي وامتلاك الإرادة، باعتبار أن مسألة نشر ودعم الديمقراطيات بالعالم العربي، ليس قراراً عربياً وللأسف، بل هو قرار خارجي من قوى كبرى ما زالت مهيمنة ومؤثرة ومستفيدة من المنطقة، وهي لم ولن تتخذ ما يدعم مثل هذه التغييرات، لأنها في غير صالحها، باعتبار أن تعاملها مع نظم استبدادية ديكتاتورية، وبحسب خبرات الماضي لها بالمنطقة، خير معين لاستمرار نفوذها وحماية مصالحها، وبالتالي لا شيء يدعوها للتورط في دعم تغيير الأنظمة الحالية لتأتي أخرى ديمقراطية بنسبة ما وتكون صاحبة قرار، خاصة أنه لا شيء يضمن أن مصالحها ونفوذها ستبقى كما هي الآن.. ودع عنك كل شعارات تلك القوى ومبادئها وقيمها وغيرها، فإنما هي غالباً للاستهلاك الإعلامي وتخدير الشعوب ليست أكثر.
من هنا ومن خلال تجارب ثورات الربيع العربي التي بدأت من تونس وانتهت إليها مرة أخرى، تفيد المراقب أن التغيير في عالمنا العربي ليس بالصورة المثالية التي يحلم بها المواطن العربي، كما يجدها ويتابعها في أجزاء من العالم، تثور الجماهير فيها فتنهار أنظمة وتقوم أخرى بسبب ما للجماهير من تأثير وقوة.
الوضع تبين لنا منذ 2010 وحتى اليوم أن الأمر ليس بتلكم السهولة التي توقعها أغلبنا، وخاصة بعد انهيار نظم بوليسية شرسة في تونس ومصر وليبيا واليمن بشكل سريع، وتوقع أغلبنا أن الطريق سالك ليستمر قطار التغيير، وتناسينا أن البنية التحتية لتثبيت وترسيخ أركان التغيير غير موجودة، وأن التحركات التي حدثت إنما كانت على أرض رخوة ما لها من قرار، وتحتاج لكثير اصلاح وتهيئة.
سعدنا بتصريحات الغرب والشرق غير العربي، التي اعتبرناها مؤيدة وداعمة، وأنها صارت تحترم قرارات الآخرين وتحترم المبادئ والقيم التي ترفعها في كل حين.. لكن ما أدركنا أن الأمر عكس ما حدث، بل لا أشك لحظة في تداعي القوى الكبرى، لاسيما الغربية، لاتخاذ موقف مما يحصل بالعالم العربي، باعتبار أن مصالحها باتت دون شك في خطر.. فبدأت إثر ذلك المواقف الغربية تدخل حيز الميوعة، كما لو أنها تبغي التهدئة وتطلب الوقت لأنظمة حلفائها، كي تلتقط أنفاسها وتعيد ترتيب أوراقها، وكي تبدأ الحكومات العميقة في كل دولة بالعمل الفوري لاستعادة مواقعها بصورة وأخرى، حتى وإن غضت الطرف هي والقوى الغربية الداعمة لها عن بعض مظاهر ديمقراطية ومنها الانتخابات عبر الصناديق، ريثما تتم إعادة (ضبط المصنع) لأوضاع الأنظمة التي ما انهارت فعلياً، وإن اختفت بعض رموزها وأصنامها بصورة وأخرى. وهذا ما جرى فعلياً، بداية من مصر ومروراً باليمن وليبيا، حتى جاء دور تونس.
الغرب مصالحه فوق أي اعتبار
في هجمات معاكسة أو ثورات مضادة، بدأت الأنظمة تعيد حساباتها وأوراقها بمعية غربية لا شك فيها مطلقاً، وبدأت عمليات التصفية، بغض النظر عن المبادئ والقيم الديمقراطية التي يتغنى بها الغرب سنوات طوال. واحتكم الناس أثناءها إلى صناديق الغرب الديمقراطية، وفاز الإسلام السياسي – كما يُشاع في الإعلام ويُراد به جماعة الإخوان المسلمين – فهل يسكت الغرب على هذا التحول غير المتوقع في أهم البلاد العربية؟
تبين للقاصي والداني وبالأدلة العملية أنه لا يمكن قبول أي نوع من أنظمة حكم تُدار بأيدي إسلاميين، مهما كانت سعة صدورهم وأفقهم ومرونتهم التي لم تكن مستساغة حتى من أتباعهم.
فالتاريخ الذي كرر نفسه من بعد انتخابات الجزائر 1992، وانتخابات غزة 2006، وفوز الحركات الإسلامية بها، ليفوز الإسلاميون تارة أخرى في مصر وفوز آخر ملحوظ في تونس، جاء ليؤكد أن (الإسلام السياسي) غير مقبول البتة في الحياة السياسية، إن لم تكن الحياة العامة أيضاً.
بدأت الثورات المضادة بدعم منقطع النظير من الداخل العربي وكذلك خارجه. وتبين للقاصي والداني وبالأدلة العملية أنه لا يمكن قبول أي نوع من أنظمة حكم تُدار بأيدي إسلاميين، كما لو أنهم من كوكب آخر، مهما كانت سعة صدورهم وأفقهم ومرونتهم، التي لم تكن مستساغة حتى من بعض أتباعهم. إذ على رغم انفتاحهم الواسع على الآخرين، ظل الإسلاميون بكل صورهم غير مسموح لهم هذا الامتياز، وأقصد امتياز أو فرصة إدارة بلدانهم ! وما جرى في مصر أبرز أمثلة الربيع العربي.
الآن يتكرر في تونس بصورة أخرى، على رغم تواضع وحداثة التجربة التونسية الديمقراطية، إلا أن محاولات إعادتها إلى حظيرة الاستبداد كانت مستمرة منذ سقوط نظام بن علي، لم تتوقف ولم تهدأ، ومليارات قوى الشر العربي المعروفة، كانت وما زالت تُصرف هنا وهناك في تونس، لإجهاض كل معاني وقيم الثورة أولاً ومن ثم قطع كل صلة لحزب النهضة بالحكم، على رغم مرونة الحزب الواسعة على الآخرين في الداخل وكذلك الخارج، والتي كانت مثار نقد واسع من الإسلاميين أنفسهم للحزب، ولكن حدث ما حدث.
الغرب .. لا مبادئ أمام المصالح
هكذا إذن كان الغرب ولا يزال إلى يوم الناس هذا. قوته السياسية والعسكرية في خدمة اقتصاده وتجارته. إن حماية مصالحهم فوق أي اعتبار. ولا تقل لي مبادئ وأخلاق وقيم، فأمام الثروات المعدنية وغيرها من ثروات وخيرات هذا العالم العربي المنكوب، ومثله في أفريقيا وبعض دول العالم الثالث، يتجرد الغرب من كل تلك المبادئ والقيم التي يتغنى بها ليل نهار، وصدّع رؤوسنا بها لأزمان طويلة، ولو أدى ذلك إلى خراب البلدان ودمارها وهلاك ملايين النفوس البشرية، وما الحروب المستمرة في بقاع معينة من العالم، والقلاقل وعدم الاستقرار إلا دليل واضح لا يحتاج لكثير شروحات وتفصيلات.
انظر حولك هنا وهناك لاسيما في مناطق النزاعات والأزمات في الدول الفقيرة والنامية. ستجد أن كثرة الانقلابات العسكرية وعدم استقرارها السياسي أو الحروب، إنما لتكون مظلة للتغطية على أمور أكبر تجري على أراضيها وساحاتها. والشركات الغربية المتوحشة عابرة الحدود، تلعب دوراً كبيراً ومؤثراً على مجريات كثير من الأحداث في العالم.
إن كان هناك قديماً استخراب، أو ما يسمونه استعمار مباشر من دولة لدولة أخرى، فإنه اليوم تغير في الشكل فقط، ليستمر هذا الاستخراب ولكن على أيدي أبناء البلد نفسه، على شكل انقلابات عسكرية في غالب الأحوال، ذلك أن اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبيرة تكون أسهل بكثير في ظل حكم العسكر، وغالبية تلك القرارات تدور حول ثروات البلاد، التي يمكن التفاوض بشأنها وبيعها أو تأجيرها لمدد طويلة بكل سهولة ويسر، في غياب شبه تام للشعوب، التي تكون إما مخدرة أو منهكة، والأمثلة من هنا وهناك أكثر من أن نحصيها، بل ربما هي أوضح من أن نذكرها.
ما العمل إذن ؟
ليس حديثي لتعميق الإحباط والتشاؤم من مستقبل قد بدت ملامحه في الانكشاف كثيراً، ولكن من باب مراجعة ما وقع من أحداث خلال عقد كامل من الزمن (2010 – 2021 ) وتأملها ودراستها، والاستفادة من الأخطاء وتعزيز الإيجابيات إن وجدت. من ذلك أولاً، أن نقتنع ونعتبرها حقيقة من الحقائق وفق المعطيات والتجارب، أن الديمقراطية ليست وسيلة وحيدة للتغيير، حتى وإن أثبتت جدواها في بعض مناطق من العالم، فليس شرطاً أن تكون كذلك في عالمنا العربي.
هذه الديمقراطية التي بدأ الغرب نفسه يراجعها – كما يقول الدكتور عبدالله النفيسي – ويخضعها للفحص الفكري، بعد أن عجزت عن حل مشكلة ( الفساد والفقر)، وهي مشكلات تتعاظم وتزداد في الغرب، فلماذا لا نحاول أن نبدأ من حيث انتهى الغرب لا من حيث بدأ. هذه واحدة من المقترحات التي تحتاج أو تستحق البحث والدراسة، فلعل بعدها نخرج بوسيلة متطورة تناسب البيئة والعقلية العربية، لتغيير منظومات الفساد ومشكلات الفقر والاستبداد.
ضرورة التنبه ثانياً إلى أن عمليات التغيير تأخذ وقتها لتنضج ثمراتها.
عشر سنوات منذ بدء ثورات الربيع العربي هي لا شيء مقارنة بالثورات العظيمة التي وقعت في العالم، منها الفرنسية على سبيل المثال، التي احتاجت لأكثر من مئة عام لتتحقق أهدافها، من بعد شد وجذب مع الثورات المضادة، وهذا الذي يجب أن نتوقعه في عالمنا العربي. الوقت عامل مهم في نجاح عمليات التغيير، بشرط الاستفادة منه في تعديل الخطط والاستراتيجيات والتكتيكات، وأخذ العبر والعظات من الأخطاء وتجنب تكرارها.
تقسيم عمليات التغيير إلى مراحل يساعد على تركيز الجهود وعدم هدر الطاقات وتبذيرها في غير جدوى، عبر الامتثال للمبدأ القرآني العظيم ( وأعرض عن الجاهلين )، الذي تعمل دول ومؤسسات وهيئات الثورات المضادة على تشتيت وتفتيت قوى التغيير في الأمة، عبر معارك هامشية هنا وهناك بعيداً عن الأهداف الكبرى لشعوب التغيير، التي أهمها على الإطلاق، ذلكم الثالوث الخطير والمعطل لطاقات الأمة، والناهب لخيراتها: الطغيان السياسي المتمثل في استئثار القلة بالقرار ، وسوء توزيع الثروات، والحليف الغربي المتسلط أو المتحكم في السيادات العربية. تلكم نقطة ثالثة.
لقد أثبتت الأزمات العديدة التي تمر بالأمة، مدى الدور العظيم المؤثر للساسة في توجيه المجتمعات، بدلاً من أن يكون هذا الدور للنخبة المتمثلة في المثقفين والمفكرين والعلماء، الذين من المفترض أنهم من يصنع ويشكّل توجهات ورؤى الشعوب بمن فيهم الساسة.. ولكن حين تخلت نخب المجتمعات عن دورها القيادي، رغبة أو رهبة، ضاعت بوصلة مراكب المجتمعات العربية، فصارت تسير على هدى السياسيين تارة بمن فيهم الحكام، أو المشتغلين بالإعلام تارة أخرى.. فترى المراكب العربية تبعاً لذلك تنتقل هنا وهناك، في تحركات تشوبها الكثير من التخبطات، ليس في السياسة فحسب، بل غالبية المجالات. وتلكم التخبطات لا شك بأنها لا تسر ولا تنفع.. وهكذا عالمنا العربي منذ استقلال دوله، من أزمة إلى أخرى، وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق