المساواة والتمكين كيف برّأت النسوية اليهودية "ليليث"؟ (10)
حسب بعض الأساطير اليهودية كان لآدم -عليه السلام- زوجة أولى تدعى ليليث ثم أصبحت شيطانة (ديابلو)وجدت الحركة النسوية اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية في أسطورة "ليليث" ضالّتها، لتستند إليها في تعزيز أسسها الفكرية والاجتماعية والدينية، ودعم مطالبها في الحرية والمساواة والتمكين. وإمعانًا في ترسيخ النموذج وتسويقه أميركيًّا وعالميًّا عمدت إلى تغيير صورتها الشيطانية المرعبة التي تتصيّد الرجال وتقتل الأطفال، وتقديمها كنموذج للمرأة القوية المتمسكة بمساواتها مع الرجل، وتسعى للحصول على حقوقها بكل السبل مهما كان الثمن. وكما ذكرنا في المقال السابق، فقد كان لمجلة "ليليث" اليهودية النسوية التي صدرت عام 1976م دور كبير في تسويق ذلك.
قامت النسوية اليهودية بإعادة إحياء أسطورة ليليث، وتبرئتها، وإعادة الاعتبار لها لتكون الصورة المثالية للمرأة "النسوية" القويّة التي تصرّ على المساواة الكاملة مع الرجل في كل شيء، وفي جميع المجالات، ومستعدة للتضحية في سبيل ذلك بأي شيء بغض النظر عن العواقب.
ليليث "النسوية"
كما تجرأ الحاخام "بن سيرا" في العصور الوسطى في الافتراء على الله سبحانه وتعالى، واختلاق أسطورة ليليث، وزعم أنها زوجة سيدنا آدم الأولى، التي تمردت عليه وتزوجت بالشيطان، فعلت الدكتورة جوديث بلاسكو، النسوية اليهودية والعالمة الدينية، والعضوة المؤسسة في مجلة "ليليث"، فعلت مثلما فعل، وقامت بإعادة إحياء أسطورة ليليث، في مقال لها عام 1972 بعنوان "عودة ليليث" اختلقت فيه قصة مغايرة لقصة بن سيرا، قدّمت فيها ليليث، وقامت بتبرئتها وإعادة الاعتبار لها، لتكون الصورة المثالية للمرأة "النسوية" القويّة التي تصرّ على المساواة الكاملة مع الرجل في كل شيء، وفي جميع المجالات، ومستعدة للتضحية في سبيل ذلك بأي شيء بغض النظر عن العواقب.
قصة بلاسكو المختلقة عن ليليث صُمّمت بحيث تكون متطابقة تمامًا مع أفكار وقيم النسوية اليهودية خاصة والعالمية بشكل عام، هي زوجة سيدنا آدم الأولى، التي خلقت معه في وقت واحد من التراب نفسه، فهما متساويان في جميع النواحي. ولكن آدم لم يعجبه هذا الأمر، فقال لها في إحدى المرات إنه سيذهب ليقطف التين، وطلب منها أن تنتظره، وتنشغل بمهام الحياة اليومية في الحديقة، فرفضت ليليث ذلك، وهجرت آدم، وطارت بعيدًا عنه خارج سور الحديقة، فأرسل الرب لها ملائكة تطلب منها العودة إلى آدم أو تواجه عقابًا شديدًا، ولكنها فضّلت أي شيء على العيش مع آدم الذي يتعالى عليها، فقررت البقاء في مكانها خارج الحديقة. فخلق الرب لآدم من أحد ضلوعه زوجة ثانية هي حواء، عاش معها سعيدًا، ولكنها كانت تشعر أحيانًا بقدرات دفينة داخل نفسها، إلا أنها كانت راضية بشكل أساسي عن قيامها بدور زوجة آدم ومساعدته، وكان الشيء الوحيد الذي أزعجها هو القرب بين آدم والرب.
وفي هذه الأثناء، كانت ليليث تحاول، من وقت إلى آخر، الانضمام إلى المجتمع البشري في الحديقة، فحاولت اختراق الجدار، ولم تستطع في المرة الأولى، وذلك جعل آدم يبني الجدار بشكل أقوى وكانت حواء تساعده في ذلك، وكان يخبرها قصصًا مخيفة عن الشيطانة ليليث التي تهدد النساء أثناء الولادة وتسرق الأطفال من مهدهم في منتصف الليل. وفي المرة الثانية التي جاءت فيها ليليث، اقتحمت بوابة الحديقة، واندلعت معركة كبيرة بينها وبين آدم هُزمت فيها أخيرًا. لكن ليليث هذه المرة، قبل أن تبتعد، حصلت حواء على لمحة عنها ورأت أنها ليست شيطانًا، وإنما امرأة مثلها، فبدأت بذور الفضول والشك تنمو في ذهن حواء: هل كانت ليليث مجرد امرأة أخرى؟ وكيف بدت ليليث جميلة وقوية وتقاتل بشجاعة هكذا! وبعد بضعة أشهر لاحظت حواء أن أحد فروع شجرة التفاح ممتد فوق جدار الحديقة، فتسلقته وانتقلت إلى الجانب الآخر، حيث كانت ليليث تنتظر، فتذكرت حواء حكايات آدم وخافت، لكن ليليث استقبلتها بلطف، وتعارفتا فيما بينهما، وجلستا تتحدثان معًا عن الماضي وعن المستقبل ساعات عديدة، وتكرر ذلك مرات ومرات، تتعلم كل منهما من الأخرى أشياء كثيرة، وروتا لبعضهما قصصًا، وضحكتا معًا، حتى نمتْ رابطة الأخوة بينهما.
تناولت النسوية اليهودية في الولايات المتحدة الضغوط التي كانت على المثليين والمثليات في المجتمع اليهودي في ذلك الوقت، وطرحت أفكارًا عن الخروج إلى العلن، وتأسيس معابد يهودية للمثليين والسحاقيات، والافتراضات المتغايرة في النصوص اليهودية، والطرق التي تفرض بها المثلية الجنسية إعادة تقييم المفاهيم اليهودية التقليدية للحياة الأسرية.
وهكذا، وبعد أن حذفنا من القصة المقاطع التي تتجرأ فيها الكاتبة على الله سبحانه وتعالى، نجد بلاسكو قد كتبت قصتها لتقديم ليليث بصورة نسوية مثالية، فهي ترفض الخضوع لآدم رمز الأبوية، المتحصن بالدين والتأييد الإلهي، رغم أنهما متساويان، وهي امرأة قوية، عنيدة، إيجابية، متعاونة، بنّاءة، اجتماعية، تعتمد على نفسها، وقد عمدت بلاسكو إلى تبرئتها من جميع ما لحق بها من أفعال شريرة، وأوصاف مرعبة، امتلأت بها الروايات العديدة التي تناقلتها الأجيال على مرّ العصور. لقد أعادت بلاسكو كتابة الأسطورة، موهمة العامة بأنها أكسبت أسطورة ليليث رداء دينيًّا جديدًا يعطي لمطالب الحركة النسوية المشروعية الدينية في أوساط النساء والفتيات اليهوديات وغير اليهوديات، ويشجعهن على الاقتداء بليليث، من دون خوف أو تردد، حيث تتمتع النصوص الدينية بقدر كبير من الاحترام عند عامة الناس.
النسوية "المثلية"
تعدّ بلاسكو إحدى رائدات الحركة النسوية اليهودية في الولايات المتحدة، وهي من النساء اللواتي أسهمن بدور حاسم في تطوير الفكر النسوي اليهودي الديني، وقد رأت أن غياب وجهات النظر النسائية في التاريخ اليهودي كان له تأثير سلبي على الدين، وحثّت بشدة النسويات اليهوديات على استعادة مكانتهن في التوراة والفكر اليهودي، ويعدّ مقالها "عودة ليليث" من أوائل النصوص اللاهوتية النسوية اليهودية، بل يراها البعض من أهم النصوص اليهودية في القرن الـ20.
وتعتقد بلاسكو، مثل كثيرات من رائدات النسوية اليهودية، أن الأخلاق والنشاط الجنسي يُعدّان جزءا لا يتجزأ من اليهودية، وذلك أثر على إسهاماتها في الأخلاق النسوية، وكانت نموذجًا كاملًا لذلك، فقد ظهرت بصفتها "مثلية" في الثمانينيات من القرن الماضي، وأثار كتابها الصادر عام 1989 بعنوان "مبارك مرتين: أن تكون مثليًّا ويهوديًّا" نقاشًا طويلًا في الأوساط الدينية اليهودية في الولايات المتحدة على وجه الخصوص. والكتاب يتناول الضغوط التي كانت على المثليين أو المثليات في المجتمع اليهودي في ذلك الوقت، ويطرح أفكارًا عن الخروج إلى العلن، وتأسيس معابد يهودية للمثليين والسحاقيات، والافتراضات المتغايرة في النصوص اليهودية، والطرق التي تفرض بها المثلية الجنسية إعادة تقييم المفاهيم اليهودية التقليدية للحياة الأسرية. وبعد أن أظهرت بلاسكو مثليتها عام 1984 انفصلت عن زوجها، عالم الحاخامية روبرت غولدنبرغ، لتعيش حياتها مع شريكتها النسوية اليهودية مارثا أكيلسبيرغ، حتى اليوم منذ 30 عامًا.
تقول أفيفا كانتور زوكوف، العضوة المؤسسة لهيئة تحرير مجلة ليليث والمنظمة النسوية اليهودية والاتحاد الصهيوني الاشتراكي، عن المرأة والمساواة المرتبطة بأسطورة ليليث والكتاب المقدس "لقد أنشأ اليهود على نحو دوري حركات للعودة إلى المصادر اليهودية، والتاريخ اليهودي حافل بمثل هذه الجهود. عندما نكافح من أجل المساواة بين المرأة والرجل ونرى ليليث على أنها تجسيد لهذا النضال، فإننا جزء من هذا التقليد بالعودة إلى المصادر الدينية اليهودية، والبناء من أساسها النقي غير الملوث. لقد كان إنشاء المجلة اليهودية النسوية (ليليث) أول فرصة للنسوية اليهودية، ولاحقا للنسوية بشكل عام، من أجل المضي قدمًا، وكانت أسطورة ليليث بمنزلة إطلاق لهذا التطور المثير للاهتمام".
وقد علّق موقع "Centre of Excellence" على توظيف الحركة النسوية اليهودية لأسطورة ليليث، بقوله "إن الحركة النسوية قامت بإلقاء نظرة ثانية على قصة ليليث، لأنها ترى أنه تمّت شيطنة ليليث بشكل غير عادل، من قبل الأساطير اليهودية لرفضها الخضوع لآدم. ولكن مع استمرار الكفاح من أجل التحرر من أدوار الجنسين في الستينيات، أصبحت ليليث رمزًا نسويًّا يمثل التمرد والتحرير، فهي الآن لا تُعدّ مخلوقًا شريرًا، لكنها امرأة ذات قوة شرسة، ازدُريت لسعيها للمساواة والهروب من الهيكل الأبوي الذي قُيّدت به".
لم ترد أسطورة ليليث في التوراة، ولكن قيام بن سيرا بجمعها من موروثات الحضارات السابقة، وكتابتها وتقديمها كتفسير ديني أكسبها قداسة خاصة لدى عامة اليهود. وكذلك فعلت جوديث بلاسكو، في إعادة كتابة الأسطورة، وتقديم رؤية تفسيرية مختلقة مغايرة تمامًا لِبن سيرا، تنطلق من الأفكار والقيم النسوية التي تؤمن بها الكاتبة والحركة النسوية اليهودية، هذه الرؤية تقود الآن الحركة النسوية العالمية، والمؤسسات الأممية، والأجيال البشرية منذ سبعينيات القرن الماضي، وتستحث الخطى قدمًا كي تحقق سائر أهدافها على مرأى ومسمع من الجميع. فكيف حدث ذلك؟ وإلى أين؟
يتبع… (النسوية العالمية بعد تبرئة ليليث)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق