الأربعاء، 23 فبراير 2022

المساواة والتمكين| النسوية اليهودية وإعادة إحياء ليليث (9)

 المساواة والتمكين النسوية اليهودية وإعادة إحياء ليليث (9)

حسب بعض الأساطير اليهودية، كان لآدم -عليه السلام- زوجة أولى تدعى ليليث، 
ثم أصبحت شيطانة (وسائل التواصل)

محمود عبد الهادي

حسب أرشيف المرأة اليهودية حتى أواخر القرن العشرين، كانت الشيطانة ليليث -زوجة آدم الأولى- ذات سمعة مخيفة، إذ يرونها خاطفة وقاتلة للأطفال، وغاوية للرجال. وفقط مع ظهور الحركة النسوية في الستينيات، اكتسبت ليليث مكانتها العالية الحالية بوصفها نموذجا للمرأة المستقلة؛ إذ لعبت المفسّرة والعالمة اللاهوتية اليهودية الحديثة "جوديث بلاسكو" دورًا رئيسيًا في تحويل ليليث من شيطانة إلى نموذج يحتذى به. فمن هي ليليث؟ وكيف أُعيد إحياؤها من جديد لتكون النموذج الكامل الذي تسعى الحركة النسوية العالمية إلى فرضه على نساء العالم؟

وجدت الحركة النسوية المعاصرة في صورة ليليث مصدر إلهام، بصفتها امرأة لا يمكن السيطرة عليها، وغيّرت بشكل حاسم صورتها من شيطان إلى امرأة قوية، وكان إنشاء مجلة "ليليث" اليهودية النسوية أول فرصة للنسوية اليهودية، ولاحقا للنسوية العالمية، للمضي قدما.

يحاول هذا المقال لفت أنظار المتابعين للحركة النسوية، من المهتمين والمؤيدين والمعارضين والمنتمين، وإطلاعهم على الحقيقة الغائبة التي لا تذكرها المنظمات الأممية، ولا المؤتمرات العالمية والاتفاقيات الدولية، ولا المراكز النسوية التي ملأت الأرض بأفكارها وفعالياتها وأنشطتها وضجيجها، بذكر حقيقة دور النسوية اليهودية الأميركية في الانحراف بمطالب النسوية الغربية، وتصعيدها إلى المطالبة بالمساواة والتمكين المطلقين، وإعادة إنتاج أسطورة ليليث المرعبة كنموذج بطولي لما يجب أن تكون عليه المرأة المعاصرة.

شهد عقد السبعينيات من القرن الماضي ظهور حركتين غريبتين، لم يكن من المتوقع حينها أن تصلا إلى ما وصلتا إليه من الانتشار والنجاح، ولا أن تتمكنا من فرض أفكارهما على المؤسسات السياسية والتشريعية والإعلامية والتعليمية في العديد من دول العالم، بل وأن تصبح في سدة اهتمامات المنظمات الدولية؛ وهاتان الحركتان هما الموجة الثانية من الحركة النسوية، والمثلية الجنسية، وكلتا الحركتين ظهرتا في الولايات المتحدة الأميركية على أيدي قيادات الحركة النسوية اليهودية، وتجمعات اليهود "المنحرفين جنسياً" حسب وصف ذلك الوقت. أما الحركة الأولى فهي موضوع هذا المقال، وأما الثانية، فسنتناولها في فرصة أخرى بعد الانتهاء من هذه السلسلة، إن شاء الله.

أسطورة "ليليث"

تعود أسطورة "ليليث" إلى القرن الثامن أو التاسع في ما يعرف بـ"أبجدية بن سيرا"، وهي عبارة عن كتابات تفسيرية للنصوص التوراتية، والتي تعرف في اللغة العبرية بـ"مدراشيم". وتزعم الأسطورة أن ليليث هي الزوجة الأولى لسيدنا آدم -عليه السلام- التي خلقها الله -عز وجل- هي وآدم من التراب نفسه، فكانت تشعر أنها متساوية مع سيدنا آدم في كل شيء، وفي أحد الأيام رفضت ليليث أن تخضع نفسها لآدم في علاقتهما الحميمة، فتركته وغادرت الجنة ولجأت إلى الشيطان، وعندما اشتكى آدم لربه مما فعلته ليليث، أرسل الله لها 3 ملائكة لتعيدها، ولكنها أخبرتهم أنها لا تستطيع العودة، لأنها تزوجت من الشيطان، وصارت تعترض طريق الرجال من بني آدم وتغويهم لتنجب منهم شياطين. وعندما طالت الوحدة على سيدنا آدم، سأل ربه أن يخلق له زوجة بديلة، فخلق له من ضلعه حواء، المطيعة لسيدنا آدم.

وعلى مر التاريخ، وصفت ليليث بأبشع الأوصاف، فهي غاوية الرجال، ومنجبة الشياطين، وهي تقتل وتهلك وتمزق وتخنق وتأكل الفتيان والفتيات، ولها أجنحة وشعر طويل وتظهر في الليل، وهي متسلطة على حديثي الولادة من الذكور حتى اليوم الثامن، ومن الإناث حتى اليوم الثاني عشر من الولادة.

واستمرت أسطورة ليليث في الكتابات التفسيرية لحاخامات العصور التالية بوصفها رمزا للشر الكوني والشهوة والتسلط والخطيئة والتمرد والجريمة والفجور والعصيان.

وهكذا قدمت لنا الأسطورة نموذجين للمرأة: الأولى هي ليليث العاصية المتمردة التي ترى نفسها ندّا بند وسواء بسواء مع سيدنا آدم، والثانية هي حواء المطيعة المسالمة التي تتكامل مع سيدنا آدم وتهتم بشؤونه، وتربي له الأطفال، وتعينه على أعباء الحياة.

وبغض النظر عن الحديث الطويل حول أصل هذه الأسطورة، ورواياتها وتطورها وعلاقتها بالتوراة، فإنها استمرت في التداول، على مدى العصور الماضية حتى يومنا هذا، وتحولت إلى مصدر إلهام لرجال الدين والأدباء والشعراء والفنانين من الرسامين والموسيقيين والسينمائيين والكهنة والدجالين الذين يتاجرون في صنع التمائم والتعويذات للوقاية من ليليث وشيطانيها، فمنذ القرن التاسع عشر، أصبحت ليليث مشهورة في جميع أنحاء العالم الغربي، وقد تم تصويرها في الكتب والأفلام والبرامج التلفزيونية وألعاب الفيديو والرسوم المتحركة والكوميديا ​​والموسيقى. وأخيرا، كانت مصدر الإلهام الأكبر للحركة النسوية.

إعادة إحياء الأسطورة

عانى اليهود كثيرا في الدول الغربية والولايات المتحدة في النصف الأول من القرن الماضي والقرون التي سبقته، وكما عانت المرأة الغربية من الاضطهاد والتمييز، عانت المرأة اليهودية كذلك من الأمر نفسه، بل بصورة أشد. وقد بدأت الحركة النسوية اليهودية في ستينيات القرن الماضي، وكانت آنذاك منسجمة مع الحركة النسوية الغربية، وتطالب بتحرير المرأة، وقد تجسّد ذلك بوضوح في كتاب النسوية اليهودية بيتي فريدان "الغموض الأنثوي" عام 1963، إلا أن الحركة اكتسبت زخما كاملا في سبعينيات القرن الماضي، بعد أن وجدت في أسطورة ليليث نموذج الأنثى القوية التي تستحق التقليد. يقول الحاخام مناحيم ليفين -أحد الحاخامات البارزين في الولايات المتحدة- "منذ لك الوقت، نما الاهتمام بشخصية ليليث بين النسويات اليهوديات وغير اليهوديات".

عمدت الحركة النسوية اليهودية -في بدايات السبعينيات من القرن الماضي- إلى إحياء أسطورة ليليث والاحتفاء بها وتقديمها بوصفها نموذجا نسويا متكاملا، والعمل على تسويقه وسط النساء والفتيات، بما يتوفر له من امتدادات تاريخية وصِلات دينية، وأبعاد إنسانية ملهمة، فهم ينظرون إلى ليليث، ليس باعتبار ليليث زوجة آدم الأولى القوية فحسب، بل باعتبارها أول امرأة مستقلة على الإطلاق أيضا.

وهكذا عمدت الحركة النسوية اليهودية -في بدايات السبعينيات من القرن الماضي- إلى إحياء أسطورة ليليث والاحتفاء بها وتقديمها بوصفها نموذجا نسويا متكاملا، والعمل على تسويقه وسط النساء والفتيات، بما يتوفر له من امتدادات تاريخية وصِلات دينية، وأبعاد إنسانية ملهمة، فهم ينظرون إلى ليليث، ليس باعتبار ليليث زوجة آدم الأولى القوية فحسب، بل باعتبارها أول امرأة مستقلة على الإطلاق.

في مقال بعنوان "رحلة ليليث: الأدب النسوي الأميركي اليهودي الحديث" نُشر في يناير/كانون الثاني 2010، أوضحت البروفيسورة آن آر شابيرو -من مؤسسات الحركة النسوية اليهودية في الولايات المتحدة- أنه في الوقت الذي سيطرت فيه النساء البروتستانت المتعلمات على الموجة النسوية الأولى في النصف الأخير من القرن الـ19 التي تركزت على حق الاقتراع، باعتباره الهدف الأوسع للمساواة، فإن الموجة الثانية كانت يهودية بشكل ملحوظ؛ فتقول شابيرو: "من الصعب تخيل حركة نسوية بدون مساهمات النساء الأميركيات اليهوديات، معظم هؤلاء النساء اليهوديات اعتبرن أنفسهن يهوديات علمانيات، ولم يربطن في البداية نسويتهن باليهودية".

بحلول عام 1972، صدرت المجلة النسائية الجديدة "مس" (.Ms) مع طاقم تحرير نصف يهودي، وفي السنة نفسها، نشرت الكاتبة والصحفية اليهودية الأميريكية الإسرائيلية، ليلي ريفلين، فيها مقالاً عن ليليث تدعو فيه إلى استعادة شخصية ليليث للنساء المعاصرات. وتعتبر ريفلين -المتخرجة من جامعة جورج واشنطن عام 1959- واحدة من قائمة النسويات اليهوديات اللواتي غيرن وجه الولايات المتحدة والمرأة اليهودية؛ تقول ريفلين: "إن النساء المكتفيات ذاتيا في الحركة النسوية، اعتمدن أسطورة ليليث على أنها أسطورتهن، لقد حولوها إلى رمز أنثوي للاستقلالية والاختيار الجنسي والتحكم في مصير المرء، فقد وجدت الحركة النسوية المعاصرة في صورة ليليث مصدر إلهام، بصفتها امرأة لا يمكن السيطرة عليها، وغيرت بشكل حاسم صورتها من شيطان إلى امرأة قوية".

عام 1976، صدرت مجلة يهودية نسوية تحمل اسم "ليليث"، وشعارها كان "مجلة المرأة اليهودية المستقلة"، وكان لهذه المجلة دور كبير في تسويق نموذج ليليث، واستلهام كفاحها من أجل المساواة مع سيدنا آدم، حسب الأسطورة اليهودية. وقد أشار العدد التمهيدي إلى جاذبية ليليث ورفض فهمها كشيطان. وتبنت المجلة عملية إعادة تأهيل سمعة ليليث، وتأكيد مدى ارتباطها بأصوات النساء اللواتي لا يخشين المخاطرة لضمان المساواة بين الجنسين.

تقول أفيفا كانتور زوكوف -العضوة المؤسسة بهيئة تحرير مجلة ليليث، والمنظمة النسوية اليهودية والاتحاد الصهيوني الاشتراكي- عن المرأة والمساواة المرتبطة بأسطورة ليليث والكتاب المقدس: "لقد أنشأ اليهود بشكل دوري حركات ’للعودة إلى مصدر‘ اليهودية، والتاريخ اليهودي حافل بمثل هذه الجهود. فعندما نكافح من أجل المساواة بين المرأة والرجل ونرى ليليث على أنها تجسيد لهذا النضال، فإننا جزء من هذا التقليد بالعودة إلى المصدر، والبناء من أساسه النقي غير الملوث. لقد كان إنشاء المجلة اليهودية النسوية أول فرصة للنسوية اليهودية ولاحقا للنسوية بشكل عام للمضي قدما، وكانت أسطورة ليليث بمثابة إطلاق لهذا التطور المثير للاهتمام".

وفي عام 1998، صدر في الولايات المتحدة كتاب "أي ليليث؟ كتّاب النسوية يعيدون إحياء المرأة الأولى في العالم" الذي شارك في إعداده 3 من كبار النسويات اليهوديات في الولايات المتحدة: ليلي ريفلين، وإينيد ديم، وهني وينكارت، وقالت عنه البروفيسورة اليهودية الأميركية وإحدى قادة الموجة النسوية الثانية، فيليش تشيسلر، "ليليث واحدة من النماذج الأصلية العظيمة للإناث، إنها قدوة تم دفنها ورفضها واحتقارها، وسيئت قراءتها من قبل النساء والرجال على حد سواء".

لم تقف الحركة النسوية اليهودية عند تصدير أسطورة ليليث، وتبنيها بوصفها نموذجا للمساواة الكاملة والتمكين الشامل، بل عملت على تبرئتها وتقديم تفسير مغاير لأحداثها، ولم تقف عند ذلك أيضا، بل عملت كذلك على سن التشريعات والمواثيق التي تضمن لهذا النموذج البقاء والديمومة.

يتبع… (النسوية اليهودية: تبرئة ليليث)


المساواة والتمكين| هل تنجح النسوية العالمية في قيادة العالم؟ (8)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق