الإعلام الاستباقي في الصدر الأول
لا يُتْقِنُ فنَّ “الإعلام الاستباقي” إلا من كانت لديه رؤية بيّنة واستراتيجية واضحة؛ لذلك نرى إعلام الأنظمة الحاكمة -ولا سيما الكبرى منها- أسبق من إعلام المعارضة في هذا اللون، ليس فقط لامتلاكه الأدوات والنفوذ والمال، وإنّما لذلك ولسبب آخر أهم وأقدم، وهو امتلاك الرؤية واتضاح المشروع، ولا فرق هنا بين مشروع إصلاحيّ وآخر إفساديّ، المهم هو الاتضاح وحسب.
ولقد امتلكت الأمة الإسلامية في صدرها الأول -حتى قبل قيام الدولة- رؤيةً ومشروعًا غايةً في الوضوح؛ لذلك امتلكت زمام المبادرة الإعلامية، وأتقنت فنّ “الإعلام الاستباقي” وبرعت في توجيه ضربات إعلامية استباقية، دفاعيةٍ إجهاضية وهجوميةٍ تقويضية، مع إتقان شديد لفنّ الاحتراز الإعلاميّ للوقاية من المصايد، ولفنّ الإعلام الاستدراكي لإزالة آثار الأخطاء العابرة والتصرفات العاثرة.
إعلام الجاهلية
إنّ الجاهلية لم تَأْلُ جهدًا في توجيه وتفعيل آلتها الإعلامية ضد الدعوة الإسلامية؛ فمنذ اللحظة الأولى للجهر بالدعوة تناول القصف الإعلامي شخص رسول الله ﷺ ودعوته بالتجريح والتشكيك والطعن والافتراء، وجاء ذلك وفق رؤية مفادها: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ﴾ (ص: 6).
وكانت لهم أدوات إعلامية بسيطة ببساطة الحياة آنذاك، لكنّها كانت غاية في القوة والتأثير، منها تلك الخطة الإعلامية التي كانت سببًا في نزول قول الله تعالى: ﴿كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ (الحجر: 90-91)، فهؤلاء الذين أنزل الله عليهم العقاب والبلاء تقاسموا الأدوار في موسم الحج، فوقف كل واحد منهم على باب من أبواب مكة، هذا يقول عن القرآن “سحر” وهذا يقول “شعر” وهذا يقول “أساطير الأولين” وهذا يقول “إفك افتراه”، فإذا دخل الناس الحرم بهذه الأقوال “العِضِين” اضطربوا وماجوا، فأتوا الوليد بن المغيرة وهو على باب الكعبة، فأجابهم: “سحر يُؤثر”.
وقد كان لهذا الإعلام أثر بالغ، فهذا الطفيل بن عمرو الدوسي استمر التأثير الإعلامي يلح عليه حتى حشا أذنيه بالقطن لئلا يسمع القرآن، وعندما سمع بعض ما يقرأ رسول الله ﷺ في المسجد الحرام قال لنفسه: “واثكل أمي إني لرجل شاعر لبيب، لا يخفى عليّ الحسن من القبيح من الكلام”، ونزع القطن وانطلق إلى رسول الله ﷺ فاستمع منه وأسلم على يديه.
ولم يكن إعلام المنافقين أقلَّ خطرًا من إعلام قريش، ولم يكنْ حديث الإفك الذي زلزل المدينة إلا أثرًا من آثار إعلام “ابن سلول”، وهو ما استدعى نزول سورة تبرئ فراش النبوة مما نُسب إليه كذبًا، وتضع جملة من الآداب الاجتماعية العالية كان منها أدبٌ يُعد تحصينًا للمجتمع من كيد الإعلام، وهو أدب حسن الظن وعدم اتباع الأكاذيب أو ترويجها على من عُرفوا بالفضل: ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾ (النور: 12).
الإعلام الإسلاميّ
ولم يقف المسلمون إزاء هذه الحرب الإعلامية مكتوفي الأيدي، وإنّما استطاعوا في وقت مبكر أن يحركوا آلاتهم الإعلامية التي كانت أبسط من الآلة الجاهلية، ولكنّها بحسن التوجيه أنجزت النصر على غريمتها، وقد نقلت لنا السيرة النبوية صورًا من ذلك، منها تخصيص حسّان بن ثابت مع جماعة من شعراء المسلمين للدفاع عن الدعوة، وقد قاموا بدورهم وواجبهم خير قيام.
وقد كان الوحي ينزل ليلقن المسلمين كيف يحترزون من سهام الإعلام المضاد، وكيف يستدركون عليه بمهارة وإتقان، فها هي -على سبيل المثال- الآية تنزل لتلقن المسلمين على أثر استثمار الجاهلية لواقعة قتل المسلمين لأحد المشركين في الشهر الحرام وتعلمهم كيف يقلبون الطاولة عليهم: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ (البقرة: 217).
وقد تعلّم المسلمون الحسّ الإعلامي وقوة الاحتراز، وظهر ذلك في مواقف عديدة، منها الموقف الذي أراد فيه عمر أن يقوم في الناس خطيبًا في موسم الحج ليشرح قصة تولية أبي بكر للخلافة، ردًّا على مَن قال: “ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة”، فنهاه عبد الرحمن بن عوف قائلًا: “إنّ الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنّي أخشى أن يُطَيّرها عنك كلُّ مُطَيِّرٍ وألا يعوها وألا يضعوها في موضعها”.
الإعلام الاستباقيّ
أمّا الإعلام الاستباقي فهو من أبرز ما تميزت به الأمة في صدرها الأول، وبرعت فيه، وسوف أكتفي هنا بمثال على ذلك غاية في الوضوح، وهو خروج أبي بكر للهجرة إلى الحبشة، فمن الصعب أن نتصور خروجَهُ -وهو غير مضطر لذلك بما له من شرف ووجاهه- وتَرْكَهُ رسولَ الله -وهو الصديق الحميم- إلا في إطار ما كشفت عنه كلمات ابن الدغنة الذي لقيه في الطريق وردّه قائلًا: “إنّ مثلَك يا أبا بكرٍ لا يَخرجُ ولا يُخرَج، وإنّ خروجَك عارٌ على العرب؛ فإنك رجلٌ تُقْرِي الضيفَ وتَحْمِلُ الكَلَّ وتُكْسِبُ المعدومَ وتُعينُ على نوائبِ الحق”.
وابن الدغنة بوق مشهور، والكلمات التي قالها هي ذاتها التي قالتها خديجة للنبي ﷺ لدى نزول الوحي؛ لأنّها كانت تمثل مَعلمًا بارزًا من معالم “الحضارة العربية”، فخروج أبي بكر ولقاؤه بابن الدغنة كان -ولا بد- ترتيبًا لتوجيه ضربة إعلامية استباقية لقريش؛ حتى لا تحاول “تدويل” مطلب رد المهاجرين للحبشة داخل البيت العربيّ، وهذه ضربة مسددة في كبد قريش قلب العرب؛ إذ كيف يصل بها الظلم إلى حد أن يضطر شريف ذو فضل على قبائل العرب أن يخرج مهاجرًا تاركًا جزيرة العرب برمتها؟! والأمثلة حقيقة كثيرة ومتنوعة، ولعلنا نعاود الحديث في هذا الأمر المهم، لعلنا نتعلم منه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق