من يُنقذ إبراهيم سعدون؟
علي أنوزلا
إبراهيم سعدون شاب مغربي في ربيعه الواحد والعشرين، قضت محكمة "جمهورية دونيتسك الانفصالية" في أوكرانيا، قبل أسبوع، بالحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص، مع اثنين من المقاتلين البريطانيين، بعد إدانتهم بتهمة القتال في صفوف القوات الأوكرانية. خلّف الحكم ردود فعل غاضبة في عواصم غربية كثيرة دانته، وعبّرت الأمم المتحدة عن قلقها، ووصفت الثلاثة بأنهم أسرى حرب، ويجب معاملتهم وفق معاهدات جنيف، واعتبرت محاكمتهم بتلك الطريقة الاستعراضية "جريمة حرب" في حد ذاتها. وفي وقتٍ تحرّكت فيه لندن، بكل ثقلها الدبلوماسي والإعلامي، للإفراج عن مواطنيها، وعبر كبار مسؤوليها وساستها عن غضبهم من الحكم على اثنين من رعاياها، اقتصر رد الفعل المغربي الرسمي الوحيد على بيان "إخباري" يتيم وباهت لسفارة المغرب في كييف، يخبر الرأي العام المغربي بحكم كيان سياسي غير معترف به دوليا بالإعدام على مواطن مغربي! ولكن على مستوى الرأي العام المغربي، ترتفع أصوات حقوقية ومدنية عديدة مطالبةً السلطات الرسمية بالتدخل بسرعة لإنقاذ حياة الشاب المغربي الذي يواجه حكما قاسيا بالإعدام بالرصاص خلال شهر، في حال تثبيت حكمه استئنافا، وهو أمرٌ مرجّح جدا بالنظر إلى شروط المحاكمة غير العادلة التي خضع لها سعدون ورفيقاه الإنكليزيان في محاكمتهما الابتدائية.
كان يجب أن يكون إبراهيم سعدون على مدرّجات إحدى الجامعات أو المعاهد العليا المغربية يتابع تحصيله العلمي الذي حَمَله على الهجرة مبكرا إلى أوكرانيا عام 2019، لإكمال دراسته الجامعية على غرار شابات وشبان مغاربة كثيرين تُغلق أمامهم أبواب الجامعات والمدراس والمعاهد العليا المغربية، لأسبابٍ تتعلق بالعلامات التي تشترطها تلك المؤسسات لدخولها، أو بالمصاريف الباهظة التي يتطلبها التسجيل في صفوفها، أو فقط بسبب بيروقراطية وفساد إداري ينخر الجامعات المغربية، فيضطرّ أولياؤهم إلى التضحية بكل ما لديهم من أجل ابتعاثهم إلى الخارج، لإكمال دراستهم وإنقاذهم من الضياع الذي ينتظرهم في حالة بقائهم في بلدهم. وغالبا ما يكون هؤلاء الطلاب متميزين، لكن الاحتكام إلى شرط العلامات غير العادل والفساد الإداري والمحسوبية وانعدام الشفافية داخل المؤسسات التعليمية العليا الرسمية المغربية يضطرّهم إلى الهجرة مبكرا خارج بلاهم بحثا عن آفاق رحبة لاستكمال دراستهم وتكوينهم الجامعي، وقد بلغ عدد هؤلاء في أوكرانيا فقط نحو 12 ألف طالبة وطالبا كانوا يتابعون دراستهم فيها حتى قبيل اندلاع الحرب الجارية فيها حاليا، ومثلهم كثيرون موزّعون على عديد من بلدان الأرض من الصين إلى كوبا، يسعون من أجل العلم والتحصيل، زادهم الوحيد إرادتهم الفولاذية وصبر أوليائهم وتضحياتهم الكبيرة من أجل مستقبل فلذات أكبادهم.
في القانون المغربي، ما زال إبراهيم سعدون يحمل جنسية بلده الأصلي، وهو ما يخوّل له الحق في أن تضمن له السلطات المغربية سلامته
وإبراهيم سعدون، كما يصفه والده، نابغة صغير، ذهب إلى أوكرانيا بعدما أُغلقت أمامه أبواب الجامعات والمعاهد العليا المغربية. كان يحلم بأن يكون طيارا أو رائد فضاء. ونظرا إلى تفوقه وموهبته في إتقان اللغات التي يتحدّث بست منها، لغته الأمازيغية الأم والعربية والفرنسية والإنكليزية والروسية، بالإضافة إلى الأوكرانية التي أتقنها في ظرف عام. اختاره معهد الفضاء في أوكرانيا للدراسة على نفقة الدولة الأوكرانية. وسنة بعد وصوله إلى كييف سيجري اختياره من بين زملائه لتوقيع عقد مع الجيش الأوكراني مترجما له، وهو ما أهّله للحصول على الجنسية الأوكرانية.
ولا يحتاج المرء أن يكون أريبا صاحب فِراسةٍ ليفطن إلى نباهة إبراهيم سعدون وذكائه، يفصح عنهما هدوؤه وثقته الكبيرة في نفسه، وهو يواجه مبتسما الحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص، وأجوبته المختصرة والذكية على سجّانيه، ولغة نظراته الحادّة لا ترتعش تنفذُ مباشرة إلى أعماق من يحدق فيها، تنمّ عن ثقة في النفس وقوة وجرأة كبيرتيْن. ووجهه الطفولي يشعّ براءة، يسفر أحيانا عن ابتسامةٍ خفيفة لإخفاء خوفه يرافقها عضٌّ خفيف لشفته السفلى للحفاظ على تماسكه وقوته، وإخفاء توتره وهو يجلس داخل قفص الاتهام وأمام عيون الكاميرات التي تنقل مأساته إلى العالم. إن شخصا، بكل هذه الثقة الكبيرة في النفس والإيمان بقدره والتفاؤل الذي عبّر عنه وهو يوجّه رسالته إلى أمه في المغرب، يطمئنها على أن كل شيء سينتهي قريبا وبسلام، لا يمكن أن يكون "مرتزقا" و"قاتلا" كما تحاول الدعاية الروسية والإعلام الموالي لها تقديمه للعالم.
بحكم القانون الدولي، ليس إبراهيم سعدون مرتزقاً، لأنه التحق بالجيش الأوكراني مترجماً، وليس مقاتلاً
ومع ذلك، ما زال إبراهيم سعدون الفتى الغِرٌّ ذا غفلة وقلة فطنة لا يدرك حجم الورطة التي وضع نفسه فيها، ولا نعرف الأسباب الحقيقية التي رمت به في أتون تلك الحرب المجنونة، لذلك لا يجب أن يُترك لقمة سائغة تتلاقمه ذئابُ البشر. لا يتعلق الأمر هنا بمباركة ما أقدم عليه، وأبعد من ذلك، ليس تشجيعا للشباب أمثاله ليلقوا بأيديهم إلى التهلكة في حربٍ لا ناقة ولا جمل لهم أو لبلدهم فيها. ولكن من واجب سلطات بلاده، ومن حقّه عليهم أن ينقذوا حياته من مصير محتوم سيتقرّر بعد شهر، هي مهلة الطعن في الحكم عليه بالإعدام قبل استئناف محاكمته.
بحكم القانون الدولي، ليس إبراهيم سعدون مرتزقا، لأنه التحق بالجيش الأوكراني مترجما، وليس مقاتلا، وهو يحمل جنسية الجيش الذي اعتقله وهو يرتدي زيه النظامي. وبالتالي، هو أسير حرب أوكراني لدى روسيا والعناصر الموالية لها. وفي القانون المغربي، ما زال إبراهيم سعدون يحمل جنسية بلده الأصلي، وهو ما يخوّل له الحق في أن تضمن له السلطات المغربية سلامته. وينص الدستور المغربي صراحة على عدم جواز "المسّ بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف، ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة". ومعنويا، تتحمّل السلطات المغربية مسؤولية الوضع الذي يوجد فيه هذا الشاب اليوم، فلو أن بلاده وفرت له ظروف التحصيل والتكوين على مقاعد جامعاتها ومعاهدها ما كان ليجد اليوم نفسه جالسا داخل قفص الاتهام في حرب لا يدرك أبعادها الاستراتيجية ورهاناتها الخفية. وأخلاقيا، من حق إبراهيم سعدون علينا أن نطالب بتوفير شروط المحاكمة العادلة له مع الأخذ بعين الاعتبار كل الظروف التي أجبرته على رمي نفسه في أتون حربٍ وجد نفسه، هو وأمثاله من ضحاياها، مجرّد حطب فيها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق