كان أدائي لامتحان الدكتوراه نوعًا من أنواع الحوار المتقدم بيني وبين أستاذي، كانت في هذا الحوار درجة كبيرة من درجات التحدي المحسوب من الطرفين، كان الحوار بين طبعين مختلفين، وأداءين متعارضين، وربما يحتاج الأمر إلى ضوء سريع يكفل فهم طبيعة هذا التناقض، وهذا الحوار من بعده.
كان التفوق المبكر ولا يزال بمثابة مشكلة حقيقية، في مصر، لي ولغيري من الذين تمتعوا به، فالأنظار متجهة دومًا إلى تحقيق أي فرصة لآخر ليحل محل المتفوق المبكر، والأنظار متجهة دومًا إلى البحث عن الفرصة المواتية للشماتة فيه، هذا فضلًا عن الحديث المتكرر عن العيوب البارزة في شخصية كل متفوق مبكر، مع أن هذه العيوب قد تمثل مزايًا في حد ذاتها، ومع أنها تسهم في صناعة هذا التفوق، ولست أنكر أن مجتمعنا المصري لم ينم بعد القدرة على الإفادة من المتفوقين، ولا الحفاظ عليهم، ولا استثماراتهم.
وأعترف أنني عانيت في هذا السبيل بأكثر مما عانى غيري، لكنني أعترف أيضا أن معاناتي هذه قد زودتني بمناعة رهيبة ومبكرة بحيث أصبحت في كثير من المواقف لا أتوقع إلا الغيرة، أو الحقد، أو الحرص على التقليل من قيمة الفوز، أو محاولة إلقاء الضوء على التالين خصما من رصيدي.
لكني أعترف أيضا، وهذا هو الأهم أنني لقيت أضعاف هذه الآثار السلبية من آثار إيجابية مشجعة تمثلت في التشجيع، والتقدير، والاعتراف، والتتويج، والتكريم، وحسن السيرة، وعطر السمعة، والثناء الجميل، والامتنان العميق، والدعاء الصادق، والاحتضان الدافئ، وقد تفاعلت كل هذه الإيجابيات مع كل السلبيات الأخرى، وكانت النتيجة بفضل الله في مصلحتي، وفي مصلحة صعودي واستمراري.
ولست أنكر أن الذين يعرفون بالتفوق المبكر كثيرًا ما يستعدون الآخرين عليهم بمواقف كفيلة بأن يكون هذا الاستعداء قاسيا، وربما أقفز مباشرة إلى مثل شائع في ممارساتنا للامتحانات أو التشخيص في حالات المؤتمر أو الكونسلتو، فقد تعلمنا جميعا ولازلنا نعلم ألا نقفز إلى تشخيص محدد تماماً، وإنما ينبغي علينا في مثل هذه الحالات أن نشير إلى التشخيص «العريض» الذي يشمل تشخصينا وتشخيص الحالات القريبة الشبه به، وذلك للإيحاء بخلق العلماء الذين لا يتسرعون، وإنما يتثبتون وهو خلق مطلوب بلا شك، والإيحاء أيضا بخلق الأطباء الذين لا يندفعون، وإنما يتمهلون، وهو خلق مطلوب بلا شك، وللإيحاء ثالثا بخلق الأساتذة الذين لا يحصرون أنفسهم في نطاق ضيق بينما القماشة العريضة كفيلة لهم بإبراز قدراتهم على المقارنة، والاستنتاج، والمناقشة، والوصول إلى الحقيقة.
مع كل التقدير لهذا الفهم المتمكن مني ومن غيري من المجتهدين المجدين الذين وصلوا إلى مرحلة الدكتوراه ثم إلى الأستاذية، فقد كان هناك عرق نابض لا يكف عن البروز في تصرفات بعضنا في لحظات كثيرة، ولهذا الموقف أكثر من قصة طريفة.
حدث في أحد اجتماعاتنا في مجلس القسم بعد أن وصلت إلى الأستاذية أن صممت على رأي معين، وقلت: إنه الحل الوحيد والرأي الوحيد والاختيار الوحيد، وكان معظم الحاضرين يرون رأيي ويعتقدون صوابه، إلا أن بعض زملائنا الكبار كانوا يرون رأيا آخر لاعتبارات مرحلية، ولم يسمح ضمير أستاذي له أن يوافق هؤلاء، وإنما انحاز إلىّ ثم قال: أوصيكم برأي محمد إذا صمم عليه، فما كان من أحد زملائنا المحبين إلا أن توجه إليه بالسؤال: لماذا؟
قال أستاذي: لقد كان ورقبته في المشنقة يصمم على الصواب، مع أنه كان من السهل عليه أن يلجأ إلى الأساليب التي يتطلبها التظاهر بالعلم والحكمة.
عندئذ أردفت: وقد دفعت الثمن أضعافًا مضاعفة تفوق الإعدام!!
قال أستاذي: ولم لا تقول إنك نلت المجد كما لم ينله غيرك؟
قلت: أفلم يكن هناك بديل ثالث؟
قال: لا.. ولا أكذبك القول إن أحدًا لم يكن يتوقع منك أن تواصل طريقك في الصمود والواثق والتحدي السافر إلى النهاية.
قلت: لم يكن أمامي غير هذا.
قال: بل كانت كل الطرق مفتوحة أمامك لإنهاء مشكلتك والتخلي عن طريق المجد الذي أردته.
قلت: لم أكن أعرف هذا.. كنت أعرف أنه لا حل أمامي إلا هذا الطريق الذي سلكته فبقيت فيه.
قال: هذا من فضل الله عليك يا محمد، فاذهب لوالديك فقبل أيديهم لأنهما ربياك على العزة، فلو عرفت أن هناك طرقا أقصر لسول لك الشيطان سلوكها.
قلت: وهل كنتم تعرفون ذلك؟
قال: عن نفسي لم أكن أتوقع لك كل هذا الصمود.
قلت: ما دمت قد قلت هذا فإني أصدقك القول إنني أيضا لم أكن أتوقع كل هذا الصمود من نفسي.
قال: لكني الآن أدرك أنك كنت قادرًا على ما هو أكثر منه.
قلت: وما الدليل؟
قال: أرى مغريات الدنيا حولك كثيرة، وأعرف عن يقين أنك اعتذرت عنها بلطف.
قلت: إنما هو في رأي الناس عجز.
قال: وما أعجزك؟
قلت: يرون النتائج تدلهم على هذا فلا يحكمون إلا به.
قال: ثم يرون النتائج تدلهم على نقيضه فيحكمون بالصواب، ألا ترى أنك محاط بهالات من التقدير الحقيقي كلما مضيت في حياتك وفي طريقك؟
قلت: لا أظن الأمر كذلك، وإنما أظنه خليطًا من مجاملة، ومن رد لمجاملة، ومن تقدير حقيقي، ومن تقدير يستمد جذره من تقدير عمومي.
قال: وماذا تريد أكثر من ذلك؟ أتريد إيمانا كإيمان البشر بالمقدس؟
قلت: لست أدري.. لكن نفسي قلقة في مجتمعها.
قال: وعن قريب تهدأ هدوء الواثقين.
قلت: تقصد هدوء العاجزين.
قال: ليس لي أن أجاريك في لغتك.. لكني أستطيع الآن أن أغلبك وأقول لك هدوء المترفعين.
قلت: لك الفوز يا سيدي في كل معركة.. وملت على يده فقبلتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق