أثر القيم المعيارية في تحقيق الرشد السياسي
فلا يوجد نظام في حياة البشرية -قديماً كان أو حديثاً إسلامياً كان أو جاهلياً- لا يقوم على منظومة من القِيَم التي يرتضيها المجتمع السياسيّ الذي يُطَبَّق فيه هذا النظام، بغضّ النظر عن مدى استقامة هذه المجموعة من القيم أو تلك على منهج الله تعالى الذي ارتضاه للناس.
فعلى سبيل المثال لا الحصر توجد في المجتمع الغربيّ المعاصر قِيَم عليا عامّة تتحكم في نظم الحياة كلها سياسية واقتصادية وتعليمية واجتماعية وغيرها، وهي مجموعة القِيَم الحداثية التي تقضي بتجاوز الإله، كما تقضي بأنّ الإنسان -ولاسيما الغربي الأبيض- سيد هذه الطبيعة، وبأنّه حرّ حرية مطلقة في اختيار منهج حياته، وبأنّ الفرد مقدم على المجتمع وعلى الدولة، وهكذا..
ثم تنبثق من هذه القيم العليا قيم سياسية بعضها رئيسي وبعضها فرعيّ،
فالرئيسية مثل: السيادة للشعب، والأمة مصدر السلطات، والحريات الفردية وحقوق الإنسان، والفرعية مثل: المواطنة والتعددية السياسية والفصل بين السلطات، وهكذا..
والأمة الإسلامية لها قِيَمُها المستمدة من الكتاب والسنة، هذه القيم تنقسم إلى قيمٍ عليا معيارية، حاكمة على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وقيمٍ أخرى مركزية يختص كل ميدان بحزمة منها، كالقيم السياسية المختصة بالنظام السياسي وبالممارسة السياسية.
فأمّا القيم المعيارية العليا فأهمها: الإيمان بالغيب – التوحيد – الإسلام – الإحسان – الاتباع – الاستخلاف – الأمانة – الإنسانية، وأمّا القيم السياسية المركزية فأهمها: سيادة الشريعة – الشرعية السياسية وسلطان الأمة – الشورى – العدل – الحرية – الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان – التكامل بين الحاكم والمحكوم – التوازن بين قوة الدولة وقوة المجتمع – خضوع الدولة للقانون، والقيم تستمد سماتها من جذرها اللغوي الدال -بحسب استعمالات العرب- على المعيارية والثبات والاستقرار والاستقامة.
وحديثنا هنا منصبٌ على القيم العليا المعيارية، وأثرها في تحقيق الرشد السياسيّ على مستوى البناء والتنظيم وعلى مستوى الممارسة العملية، وربما اتسع المقام بعد ذلك لنتطرق إلى القيم السياسية المركزية، وسنكتفي هنا بالحديث عن جملة من هذه القيم المعيارية: (التوحيد – الإسلام – الإحسان – الاتباع – الاستخلاف)، مع بيان أثرها في الميدان السياسيّ، والله المستعان.
أولاً: التوحيد
لا إله إلا الله.. كلمة ملك بها المسلمون العربَ والعجم، ودانت لهم بها الشعوبُ والأمم، كلمة أعادت في لحظة من عمر الزمان رسم الخريطة البشرية على هذا الكوكب؛ فلم تعرف الدنيا على طول امتدادها وكثرة ما غشاها من نوازل تحولاً مفاجئاً؛ يزيل حضارات كبرى ويقيم على أنقاضها بناءً حضارياً إنسانياً غاية في العظمة والشموخ؛ كهذا التحول العبقريّ الفريد؛ الذي وقع بسحر “لا إله إلا الله”، إنَّها بحق معجزة لا تقل روعة وجلالاً عن معجزة القرآن نفسه، كيف وقع هذا الانقلاب الكونيّ بهذه السرعة المذهلة وبهذا العمق وهذا الاستغراق؟! الآن وقد رأينا وسمعنا وخبرنا التاريخ ندرك بعمق أبعاد صيحة النبيِّ ﷺ في أول بعثته: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا”، “يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم”.
لقد أدرك الناس -المؤمنون منهم والمعاندون- أنّ هذه الكلمة منهج حياة وطريق نجاة، وأدركوا كذلك أنَّها تعني تحرير الناس من كل العبوديات الزائفة، وأنَّها أوسع باب وأسلم طريق إلى الحرية، إنَّ كلمة “لا إله إلا الله” تخط طريق الحرية الحقيقية، وتخط بذلك طريق الحضارة الكاملة الراشدة؛ لأنَّها -عملياً- تحطم أكبر معوقات التقدم الإنسانيّ، وهو الطاغوت؛ لذلك جاء أعظم بيان لكلمة “لا إله إلا الله” في قول الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة:256]، فالحرية التي هي أساس الحضارة الإنسانية وأصل الرقيّ الإنسانيّ، ركنها الأول الكفر بالطاغوت والبراءة من الآلهة المزيفة، وركنها الثاني هو العبودية والتسليم لله وحده: (لا إله إلا الله).
كما يتبدى أثر التوحيد في أمر غاية في الخطورة، له أثره في حفظ الإنسانية من التخبط والارتباك، وصيانتها من السفول والانحطاط، وحمايتها من تسلط المنتفعين الجشعين عليها وركوبهم على ظهرها، وهو توحيد مصدر التشريع، وجعل السيادة لله وحده بلا شريك، من هنا كان توحيد الحاكمية ضرورة إنسانية وحضارية إلى جانب كونه ضرورة شرعية ودينية، وهذا ما يقرره القرآن في كثير من آياته، منها هذه الآية البالغة الدلالة على ما نحن بصدده: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (الشورى: 21).
وهذا ما حاولت الحداثة أن تتجاهله وتفرّ منه، إنّ الإنسان في النظرة الحداثية هو محور الكون والطبيعة والوجود، وليس هناك أيّ مجال لهيمنة الميتافيزيقا التي تُخضع الإنسان لمحور واحد وقطب متفرد بالسيادة خارج هذا الكون ولو كان الله جل جلاله، ولا مانع بعد ذلك أن يكون للناس معتقدات دينية لا علاقة لها بمنهج الحياة الإنسانية، طالما أنّهم يعتقدون ما يعتقدون ويمارسون ما يمارسون دون مساس بمنهج الحياة القائم على أساس من رفض ألوهية الله وسلطانه على العباد، وعلى أصل تمّ تثبيته في الحياة وهو أنّ الإنسان سيد الكون، وأنّه بلغ رشده بما يستوجب رفع وصاية السماء عن الأرض.
ثانيًا: الإسلام
الإسلام هو دين محمد بن عبد الله ﷺ، تلك هي الدلالة العَلَمِيَّةِ لهذه الكلمة العظيمة، لكن الكلمة لها مدلول معنويّ كبير هو بالطبع السبب في اختيارها لتكون علماً لهذا الدين، فالإسلام هو الاستسلام والخضوع والانقياد والدينونة والتسليم والاستجابة والطاعة، والإسلام بهذا المدلول هو دين كل الأنبياء، ومنهج كافّة الحنفاء من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض والسماء، والإسلام بهذا المعنى قيمة عظيمة، قيمة إسلامية وإنسانية وحضارية راسية وعالية، قيمة معيارية كبيرة تنبثق عنها جملة عظيمة من المبادئ والقواعد والأسس والأخلاق والأحكام الكلية والجزية، قيمة محورية حاكمة تؤسس لمنظومة من النظم الحياتية الرشيدة في جميع مناحي النشاط الإنسانيّ، ويكفي في هذا الصدد أنّ هذه القيمة هي التي ينبثق منها منهج الحياة وطريق النجاة، وقد لَخَّص هذا المنهج -في كلمة بسيطة وتلقائية كأنفاس الفطرة- إسماعيل عليه السلام؛ عندما أجاب إمام الحنفاء قائلاً: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾.
هذا هو المنهج الذي يقيم الحياة على أساس من التسليم لله، إنّه منهج حياة للإنسان يؤسس لنظام سياسيّ يردّ الأمر كله لمنهج الله تبارك وتعالى، الأمر في هيكلة وتسيير النظام السياسي وإقامة الدولة، والأمر في وضع الدساتير والقوانين واللوائح التي تنظم حياة الناس وتحكمها، والأمر في تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والأمر في تحديد القواعد التي تقيم العدل وتحقق الخير وتضمن حقوق الآدميين وحريات العباد، والأمر في رسم منهج الحياة كلها بكافة أنشطتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
ومن هذه القيمة ينبع مبدأ سيادة الشريعة، ومن مبدأ سيادة الشريعة ينشأ الحكم بما أنزل الله عزّ وجل، وعنهما وعن قيم التوحيد والإيمان بالغيب والاتباع وغيرها تنبثق القوانين التي تنظم الحياة على أساس من التسليم لألوهية الله وسلطانه على عباده، ويوم أن تقوم الأمة الإسلامية بدورها في إقامة الحجة الرسالية على العالمين، وبدورها كذلك في الجهاد حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله بالخضوع لأمره والاستسلام لشريعته، يومها فقط سيتحقق الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
ثالثًا: الإحسان
الإحسان من الحُسْن، وهو ضدُّ الْإِسَاءَة، هذا هو المعنى في لغة العرب التي نزل بها القرآن ووردت بها السنة؛ لذلك فإنّ معناه في الشرع لا يبعد عن هذا المعنى اللغويّ، لكنّه ينطلق منه ثم يتسع ويرتفع ويَتِمُّ ويَعُمُّ؛ ليصوغ قِيمَةً شرعية إسلامية واسعة الامتداد بعيدة الآماد، ولِيَتحول لفظ (الإحسان) من مفردة لغوية لها مدلول تدل عليه اللغة بأصل وضعها إلى مصطلح شرعيّ يقوم الشرع بتحديد معالمه وبلورة مقاصده؛ وقد رسم رسول الله ﷺ هذه الحدود وخطها بنفسه؛ فقال: «الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، فالإحسان كما في هذا الحديث تحسينٌ وتجويدٌ وإتقان، تحسينٌ للعبادة وإتقانٌ لفنّ التعبد؛ إلى الحدّ الذي يبلغ بالعبادة قمةَ الجمال وغاية الكمال.
والعبادة ليست محصورة -كما هو معلوم- في الشعائر التعبدية، ولكن العبادة في الإسلام تمتدّ وتتسع لتشمل كل ما يرضي الله تعالى من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة؛ وها هو رسول الله ﷺ يبسط رداء الإحسان على كل سلوك ونشاط إنسانيّ، فيقول: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»، وهكذا يكون الإحسان ببلوغ المنتهى في الإجادة والإتقان أثناء القيام بعمل من الأعمال الدنيوية ونشاط من الأنشطة الاعتيادية التي يمكن أن تكون عبادة إذا صلحت فيها النية.
والإحسان بهذا يُعَدّ أرقى معايير الجودة، في كافّة أنشطة الخير والصلاح، بما في ذلك النشاط السياسيّ، سواء كان هذا النشاط بممارسة العمل السياسيّ، أو كان بإنشاء النظم السياسية والمؤسسات السياسية، وبهذا يكون الإسلام قد أوفى على الغاية في حسن البناء، ولا ريب أنّ بناء المؤسسات وتفعيلها وتطويرها ومأسسة أدائها من الإحسان، وأنّ انتهاج المؤسسية في عمل الدولة بكافّة أنظمتها ومرافقها من الإحسان، والذي يعرف الإسلام حقّ المعرفة يوقن أنّه أرسى المؤسسية بكافة أركانها في جميع أنشطة العمل الجماعيّ بما فيها العمل السياسيّ، والذي يَطَّلعُ على تاريخ الإسلام في عهد النبوة وفي عهد الخلافة الراشدة يوقن أنّ الإسلام دين المؤسسية والمؤسسات.
رابعًا: الاتباع
لست أعني بالاتباع ذلك المعنى الاصطلاحيّ الضيق الذي وُضع لاحقاً في مقابلة الابتداع، بل أعني الاتباع بمعناه الذي جاءنا في الكتاب والسنة، اتباع المنهج الربانيّ، اتباع سَنَنِ الأنبياء والأولياء والحنفاء، اتباع الحق الذي أوحاه الله تعالى إلى رسله: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3]، هذا هو الاتباع بالمعنى الذي يؤسس ويؤصل لمنهجية لا تدع العقل وحده يستقل بتحديد الوجهة وضبط البوصلة، منهجية علمية معرفية أبستمولوجية تضع العقل في إطاره وتضبط حركته في فلكه ومَدَاره، وتوقفه من الوحي موقف العين من الشمس؛ منهجية تضع النقل والعقل على طريق واحد، وتصوغ من صحيح المنقول وصريح المعقول سبيكة معرفية متماسكة آخذ بعضها برقاب بعض.
والسياسة بكافّة ميادينها -وإن كانت مساحة العفو التشريعيّ فيها واسعة بما يُسَوِّغ الاقتباس من التجارب البشرية المختلفة- تخضع قطعاً لمنهج الله الذي يجب اتباعه، غير أنّ التفريق الدقيق بين ما هو من قبيل المبادئ والأحكام وما هو من قبيل الآليات والوسائل والأدوات هو الذي يساعدنا على تحديد وتصنيف ما يكون منافياً للاتباع إن اقتبسناه من الغير وبين ما وسع الله علينا فيه وتركه لإنجاز العقول وإفراز التجارب، وهذا ليس من المعضلات التي تستعصي على أمة لديها من قواعد الفقه والنظر ما تباري به الخلق وتباهي به العالمين.
خامسًا: الاستخلاف
بأيّ حقٍّ وعلى أيّ وجه ولأيّ سبب أو حكمة جاء وضع الإنسان مع الطبيعة مِنْ حَوْلِه؟
إنّ الإنسان ليس سيداً لهذه الطبيعة ولا مالكاً لها، وليس ثمّ دليل أو برهان فيزيائيّ أو غير فيزيائيّ على زعم كهذا، إن هي إلا أسطورة من أساطير الإنسان المعاصر! ولا تزال الطبيعة تفاجئ الإنسان كل يوم بالجديد الذي لم يكن يعرفه، ولا يزال الإنسان يلهث باحثاً عمّا تُكنّه من أسرار وما تخفيه من مفاجآت، ولا يزال عاجزاً عن مواجهة الأخطار وتذليل الكائنات وإخضاعها، ولازلنا نرقب العلماء الكبار في جريهم وبحثهم وتقليبهم، وقد سجدت عقولهم وعلومهم لما في هذه الطبيعة من إعجاز في الخلق والتركيب والتنظيم.
لكنْ مع ذلك نرى الإنسان -على نحو ما وبدرجة ما- مُسَلَّطاً ومميزاً، مسلطاً على هذه الطبيعة ومميزاً بين ما تحتويه من مخلوقات وأحياء؛ فما وجه هذا التميز؟ وما علة هذا التسليط؟ وكذلك نرى الطبيعة -رغم استعصائها وأنفتها- مَذَلّلة ومسخرة للإنسان؛ فما وجه ذلك أيضاً؟ وما تفسير كل هذه الظواهر المتقابلة؟
عن هذا الأسئلة الكبيرة الخطيرة يجيبك القرآن، ولا يجيبك غير القرآن؛ قال تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾
[البقرة: 30].
إنّ الاستخلاف قيمة عظيمة، قيمة إنسانية تؤسس وتؤصل لنظم إنسانية تحقق الغايية من خلق الإنسان، وتحقق الانسجام بين هذا الإنسان وبين ما حوله من الطبيعة والكائنات والأحياء، إنّها قيمة لها دور كبير في حسم الكثير من القضايا الكبرى التي حيرت الفلاسفة والمفكرين ولم يهتدوا فيها بعد طول البحث والنظر إلى قول تطمئن إليه القلوب، وعلى رأس تلك القضايا قضية الأصل لنشأة الدولة، هو السؤال الكبير الخطير الذي تحدد الإجابة عليه شكل الحياة السياسية وهيكل النظام السياسي، ولم يرد عن أحد ممن تطرق إلى هذه المسألة أنه اتبع منهجاً من المناهج الحديثة كالمنهج التجريبي مثلاً، أو المنهج الاستقرائي، ولم نرَ أحداً منهم أتى على ما يقول بمستند تاريخي أو وثيقة إنسانية، ولم نجدهم -على اختلاف أمصارهم وأعصارهم- إلا متبعين لسَنَنٍ واحد، وهو الفرض المدعوم ببعض القرائن.
ومن تَتَبَّع دوافع القائلين بهذه النظريات كافّة -من خلال استقراء التاريخ والواقع الذي نشأت فيه تلك النظريات وما ترتب عليها من نتائج- يتبين له أن وراء كل نظرية دافع سياسي مُلِحٌّ، وحسبك من هذا أن تعلم أن اختلاف «توماس هوبز» و«جون لوك» و«جان جاك روسو» في تفاصيل النظرية التي اتفقوا عليها إجمالاً -وهي نظرية العقد الاجتماعي- كان مَرَدُّه حسب تحليلات علماء السياسة الغربيين هو الواقع السياسي لكل منهم، أمّا الأصل العقدي لنشأة الدولة في الإسلام فهو الاستخلاف، أمّا العقد الذي قامت به الدولة في المدينة فليس عقداً اجتماعياً بالمعنى والمفهوم الغربيّ؛ وإلا لترتب عليه أن تؤول السيادة للشعب لا للشرع، وهذا محال، وإنّما هو عقد شرعيّ وعهد سياسيّ بين الأمة والإمام، لكنّ الأصل الفكري العقدي التصوري لنشأة الدولة فهو الاستخلاف.
تلك كانت تطوافة سريعة في فلك السياسة الشرعية، ولكنّها في الفلك العلويّ منها، فلك القيم العليا المعيارية الحاكمة، ولعلنا نردفها بمقال آخر عن القيم السياسية المركزية، والله يهدي إلى سواء السبيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق