هل نحب أن يكون قادتنا جميعا أسرى أو قتلى؟!
لئن كان هذا هو الدين الحق، فلَنَحْن على غير نهج محمد وصحابته يقينا وجزما.. فإنه قد عاش وبنى دولة وأمة وحضارة، وصحابته من بعده كانوا سادة العالمين.
والآن.. هذا هو السؤال الواقعي الذي نعانيه منذ قرنيْن على الأقل؟
ما موقفنا إذا بزغ في زماننا قائد استطاع أن يفهم زمانه ومكانه وإمكانياته -في عصر الاستضعاف العام- فبقي حينا يغالب ويناور قوى الشرق والغرب، حتى استطاع أن ينتزع لنفسه مكانا ولو صغيرا.. فكيف لو كان مكانا كبيرا؟!!
ثم ما موقفنا،
وهو -لا شك- في مسيرته هذا ارتكب أخف الضررين واقترف أدنى المفسدتين وتناول أدنى الشرَّيْن؟! يدفع بذلك ما يراه هو أضر وأشرّ وأفسد.. وقد يخطئ في التقدير والتدبير.. فإنما هو بشر؟!!
تدري، لو عُرِض على فقيه مسألة نظرية تقول: ماذا يفعل الإمام إن كان مخيَّرًا بين قتل ألف وقتل ألفين، ولا سبيل ثالث؟.. لن يتردد الفقيه أن يفتي فيها..
هذه الصورة النظرية حين تشتبك بالواقع المعقد لا تكون بهذه السهولة واليسر، بل يكون النظر فيها حافلا بالتعقيد.. فلو أن هذا الإمام نفسه اختار قتل الألف لإنقاذ الألفيْن، لكان نفس ذات هذا الفقيه في المستنكرين عليه!!
أريد أن أقول:
إن ما في عصرنا هذا من الاستضعاف العام يجعل القائد المسلم مخيرا عمليا لا بين قتل ألف أو ألفين.. بل بين قتل ألف على احتمال أن يستطيع النجاة بالألفين.. وإلا كان البديل قتله هو والآلاف الثلاثة معًا.. لكن هذه الصورة لا يفهمها إلا منخرط في الشأن نفسه ومدرك لتعقيداته!!
فأيهما خير للعباد والبلاد..
أن يُقتل القائد أو يؤسر وتضيع الفرصة كلها ويملك رقابنا ورقاب الناس من لا يخشى الله طرفة عين.. أم أن يبقى هذا الذي يستطيع المغالبة والمناورة والتنازل عند اشتداد الأمر؟!!
أنا أخاطب الآن شريحة من الإسلاميين تفتي في شأن أردوغان بما يظهر لي معه أنهم إما مغلقو العقول أو مغلقو النفوس، أو قد أغلقت عقولهم ونفوسهم معًا.. وفيهم أحباب خلص، أتقرب إلى الله بحبهم.. وأحاول أن ألتمس تفصيل ما بنوا عليه رأيهم هذا فلا أظفر إلا بجزئيات وتفاصيل وحادثة هنا وهناك وهنالك!
وهذه التفاصيل والحوادث مهما بلغت لا تكون إلا مفردات وشذوذات في مسار طويل، ولا مانع أن يكون وقع فيها الخطأ أو الجريمة من أردوغان نفسه أو من أحد في إدارته.. ولكن توسيع النظرة يقول: إن هذه الحوادث والتفاصيل التي يفاصلون بها الرجل ستكون أمانيّ وأحلاما وخيالا لو كان غيره في مكانه!!
يأخذون عليه -مثلا- أن بعض السوريين قُتِلوا على الحدود، أو قُتِلوا في قصف، أو أن فلانا سُلِّم إلى بلده.. وينسون أن لو كان غيره في مكانه، لأغلق الحدود من يومه الأول، فكانت الآلاف وعشرات الآلاف صيدا سهلا لطائرات بشار.. ولو كان غيره في مكانه لما استطاع أحد أن يُهاجر إلى تركيا أصلا فضلا عن أن يُسَلَّم منها بطريق الخطأ؟!
لقد سُجِن ابن تيمية في سجن وصفه بأنه كان أحط منزلة من التي يُسجن فيها أهل الذمة، ولقد مات سجينا، فضلا عن عدد من المرات التي سُجِن فيها، ومع ذلك كان من أشد الناهين عن الخروج على أمراء المماليك لما هم فيه من جهاد المغول والصليبيين والباطنية.. وهذا على رغم ما كان فيه هؤلاء الأمراء من الاستهانة بالدماء والمظالم وكثرة ما ينقلبون على بعضهم، وقد ترتب على هذه الانقلاب نكبات على المسلمين.. وهذا أمر معروف لمن غاص في تاريخ تلك الفترة!
لقد نظر الرجل إلى أنهم آخر قوة باقية في العالم الإسلامي، آخر أرض محررة، آخر جيش يقاتل في سبيل الدين، آخر قلعة للمسلمين في زمانه.. وهذا صريح كلامه، ليس استنتاجا من عندي.
وهذا مع أن زمان المماليك أفضل بكثير جدا جدا جدا من زماننا هذا، ومع أن قوة المماليك أقوى بكثير جدا جدا جدا من قوة أردوغان المعاصرة.. لقد كان المماليك قوة عظمى عالمية في وقتهم، ولقد كسروا المغول الذين وصلوا إلى بولندا شمالا، ورجع عنهم تيمور لنك الذي أخذ بايزيد الثاني أسيرا وقد كاد يفتح القسطنطينية!
ما أيسر تفريطنا في القادة الذين يظهرون فينا.. كأننا لا نحب من القادة إلا من صاروا قتلى وأسرى..
وبدون أي انتقاص من أي قائد قُتِل أو أُسِر،
فإننا حقا في عصر استضعاف وتفاوت هائل في ميزان القوى.. لكن ما ينبغي لمن يعمل للإسلام أن يتوقف عند تعظيم القتلى والأسرى دون أن يسعى في أخذ العبرة والعظة من إخفاق التجربة!
(ولا بأس أبدا أن نصل بعد الفحص المتجرد والدراسة المخلصة إلى أن نقول: كان خيرا لهم أن يُقتلوا فإن بعض الفداء أبقى للقضية وأنفع للمسلمين وأعظم في القدوة.. الشرط الوحيد أن نصل إلى هذه النتيجة ونحن متجردون مخلصون منصفون وليس تحت ضغط العاطفة والتعظيم للقائد الكبير الشهيد).
ومثل ذلك، علينا أن نتوقف مع من نجح وهو يغالب ويجالد ويناور لنسأل: كيف نجح؟ وكيف بقي؟ وكيف استمر؟.. لا أن نمسك في الخطأ والخطأيْن، والجريمة والجريمتيْن، لنقول: هو كغيره من الخونة والطواغيت؟!
يا قوم..
لقد صارت حياتنا حافلة بالتجارب، ما على الكاتب أن يأتي بشيء من التاريخ.. انظروا إلى مصر: هل مرسي مثل السيسي إلا عند أعمى ختم الله على سمعه وبصره وقلبه؟ وهل مصير البلاد والعباد واحدٌ معهما؟!
أيهما خير للبلاد والعباد: أن نحزن على مرسي أسيرا وشهيدا؟ أم أن يبقى في مكانه وقد تنازل مرة ومرتين وعشرا واستطاع أن يناور ويجالد ويغالب وينحني للعاصفة؟!
(هذا مع أنني أرى وأؤكد أن مرسي لم يسقط لأنه كان متصلبا، بل لأنه كان متهاونا جدا جدا جدا.. والذين رأوه متصلبا وذهبوا إلى التنازل والإسهال في التنازل مثل الغنوشي وبن كيران والعثماني قد لحقوا به في مصيره)
لكنني هنا أفترض فرضا آخر،
لإخواننا الذين يعيبون أردوغان الآن ويحسبونه مثل غيره.. أفترض لهم أن مرسي كان شديدا صلبا في الإمساك بزمام الدولة، لكنه في مقابل هذا تنازل شيئا وأشياء تجاه بعض مراكز القوى فيها أو تنازل شيئا وأشياء لقوى إقليمية أو دولية (كما فعل أردوغان).. فأيهما يكون خيرا لمصر ولأمة العرب والمسلمين؟!!
إن الرجل الذي يتراجع حين تشتد عليه الشدة لا يُقال عنه متنازل وخائن لمبادئه.. بل يُقال: حاول ولم يستطع.. أما الذي يخون مبادئه ويتنازل فهو الذي لا يتعرض أصلا للشدة!!
يلومون على أردوغان أنه أعاد العلاقات مع إسرائيل والإمارات ومصر.. إلخ! وينسون أن لو كان غيره مكانه لما فكر أصلا في تعكير العلاقات مع هؤلاء، ولبذل لهم ما أرادوا.. يقول في نفسه وتقول له حاشيته: لماذا نخسر في السياسة والاقتصاد والمصالح مقابل بعض لاجئين أو قنوات معارضة أو معارضين فشلوا في ثوراتهم وجاءوا عندنا؟!!
لقد كان أحسن الناس حالا في حاشية أردوغان من كان يقول منذ 2014: لنتصالح مع السيسي، ولكن لن نسلم من لجأ إلينا؟!
هل يستوي هذا هو ومن لم يتصالح معه إلا في 2022؟!
هذا الذي كان أحسنهم حالا، هو الآن يقول: أردوغان تنازل عن مبادئه وصالح السيسي بعدما ضيع مصالح تركيا؟!!
ما بالي قد أكثرت وأطلت وأمللت؟!!.. الحديث ذو شجون.. سأتوقف هنا.. سائلا الله تعالى أن يلهمنا الرشد والصواب وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق