الاثنين، 3 يوليو 2023

هذه الأفعال الشاذَّة.. حرية أم همجية؟!

 هذه الأفعال الشاذَّة.. حرية أم همجية؟!

د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول


قال لصديقه وهما في طريقهما إلى المقهى: أليس من السخافة أن يقوم شاب بتنظيم مظاهرة لا هدف لها إلا إحراق الكتاب المقدس للمسلمين؟! وقبل أن ينفخ الصديق أوداجه بعبارات الحرية ويطنطن بها في الفضاء الفسيح عاجله بسؤال آخر: ألم يكن من اللائق ألا تسمح له الحكومة بذلك الطيش الذي يؤذي مشاعر ملياري مسلم لم يتعرضوا لنا بسوء؟! لكنّ صديقه كان قد أقلع من “مطار” الوعي إلى فضاء اللاوعي؛ ناعقًا بشعارات أشبه ما تكون بأصوات البوم، فلم يجد بُدًّا من التزام الصمت، وبينما هما ينعطفان إلى الزقاق المؤدي للمقهى إذْ بفتاة تصيح في وجه ذاك المنتفش النشوان مستنكرة علو صوته وساخرة من اتساع شدقيه وهو يرغي ويزبد؛ فما كان منه إلا أن تحول إليها بحالته ذاتها يرميها بأقذع الشتائم، عندها وجد الرجل الفرصة مواتية؛ فخاطبه بخلسة: أليست تمارس حرية التعبير؟ فصاح صديقه بلا وعي: وهل إهانة الآخرين حرية؟! عندئذ لم يكن هذا الصديق يَرُدُّ على نفسه وحسب، وإنّما كان يَرُدُّ على مزاعم الغرب كله؛ إذْ كيف يكون شخص أولى بالاحترام من مشاعر الملايين، إنّها القصة المكرورة في حياة الناس بصور مختلفة، وإنّها لتؤكد أنّ إهانة مقدسات الآخرين ليست من الحرية في شيء.


تكرار الأغمار وإصرار الأغرار

لم تكن حادثة حرق المصحف وإهانته من ذلك الغرّ المدعو (سلوان!)، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فلا يزال الأغرار الأغمار ينفذون بتكرار وإصرار هذه الرعونات السخيفة في طيش ونزق يعكس صورة الحضارة المعاصرة، في السويد وفرنسا والدنمارك والهند وغيرها من بلدان العالم المتمدين تتكرر هذه القبائح المذرية؛ دون أن ينقص ذلك من قدر القرآن ولا الإسلام، فهل يتعلمون أنّ ما يقومون به إنّما هو عبث وإفلاس؟ ولو كان ما قام به جولد تسيهر ومرجليوث وأرنست رينان وأضرابهم من المستشرقين أَحْدَثَ الأثر الذي يريدون؛ ما لجأوا إلى رقصة المذبوح هذه، التي يكررونها بلا كلل ولا ملل!

الحرية الْمُبْتغاة والحرية الْمَلْهاة

ليس غريبًا على الغرب هذا التناقض الفجّ؛ الذي لم يقف عند حدّ التضاد التام بين السياسة المعلنة والفعل المتبع، ولا عند حدّ التعاكس والتشاكس بين الشعارات المرفوعة والمشاريع الموضوعة، حتى بلغ حدّ التنافر الحادّ بين الذرات المكونة للمصطلح الواحد، فالحريّة التي تعد رأس المبادئ الحضارية لها تعاريف بعدد من تكلموا فيها من فلاسفة ومفكرين، وأزمة القيود على الحرية توزعت وتمزعت بين مؤسسات الجدل العقيم؛ فشرقت بها مذاهب وغربت بها أخرى، وما ذاك إلا لأنّ الحرية المبتغاة للشعوب الثائرة انطفأت مع آخر شمعة اتقدت في الميادين؛ لتشتعل من جديد في أقلام المترفين من أمثال هوبز ولوك وهيوم ومل وبنثام ومالثس وفريدمان، فإذا بها ملهاة تشغل الناس عن الحرية التي كانت مبتغاة.

أضحى الشذوذُ والتحولُ الجنسيّ وما يسمى بالمثلية حريّة تنبري الحكومات والمؤسسات ووسائل الإعلام للدفاع عنها والترويج لها، وغدا الذكاء الاصطناعيّ حقًا مملوكًا ومطلقًا ومجردًا من كل القيود لفئة تستطيع من خلاله الهيمنة على كافّة البشر وسحقهم واستعبادهم؛ فأيّ حرية هذه التي صارت تهدد البشريّة بالإنقراض وتهدد الفطرة الإنسانية بالانتكاس التام والارتكاس العام؟ وأيّ قوة جبارة تلك التي تقف وراء هذه التيارات المنقلبة على الدين وعلى بنيان الأخلاق وعلى الطبيعة التي فطر الله عليها الخليقة؟ وما هذه الثورة الفاجرة التي لا نرى لها من هدف سوى ما كانت تخطط له الرأسمالية فلم تحقق – برغم ما أحدثته من خروق ديموغرافية وإنثروبيولوجية – ما كانت تصبوا إليه، من الحدّ من النمو السكانيّ لإحكام السيطرة على البشر واستعبادهم، ومن احتكار التقنية الفائقة الذكاء لإذلال العباد؟!

والمحزن أنّ ذلك كلَّه ومعه الإلحادُ والحروب استطاع أن يتخذ من العلم مطيّة لبلوغ الغاية، ينقل لنا “جون ديوي” في كتابه “الحرية والثقافة” عن عالم الكيمياء “صودي” قوله: إنّ لآلئ العلم لم تُلْق إلى الآن إلا للحلاليف؛ فكوفئنا على ذلك بفئة من أصحاب الملايين، وبأحياء الفقراء القذرة، وبالتسلح استعدادا للحروب وما تجره من ويلات ودمار” ثم علق قائلًا: “فالحرب تُعَبِّئُ العلومَ في سبيل التدمير الشامل”.


الشذوذ يتبجح والجريمة تتوقح

وعلى الرغم من كون المثليًّة شذوذًا لا مبرر له على أيّ مستوى، بيولوجيًّا كان أو سيكلوجيًّا أو غير ذلك؛ نراه – بدلًا من أن يتوارى بفضيحته وينزوي بسوأته – يتبجح ويستعلن، ويحاول أن يفرض وجوده على الآخرين، بل وعلى المجتمعات والدول، فها هي موجات الشذوذ تحاول أن تفرض على المجتمع المسلم في تركيا وجودها ودعوتها، وكأنّها تريد أن تفتح اسطنبول فتحًا مثليًّا، والحكومة تبذل وسعها، ومع ذلك الموجة تتسع كأنّها نار أضرمت في قش يابس؛ فلا والله ما هذه أفعال شواذٍّ اكتفوا ببلواهم، وقنعوا بمصابهم في أنفسهم، وإنّها لسوأة ليس في العالم الذي نعيشه ما يسترها أن يتبجح الشذوذ ويستعلي.

وعلى الرغم كذلك من كون القرصنة جريمة بكل المقاييس الشرعية والإنسانية والقانونية والعرفية؛ رأيناها تقوم وتتمأسس وتتقونن، وتصول وتجول في أنحاء المعمورة؛ تقتل لِقَاءَ أجرة معلومة، وتجند المجرمين مقابل أجر معلوم، وتنهب الثروات لصالح جهات معروفة، ثمّ تدعي الوطنيّة، وتخرج بكل وقاحة معلنة عن نفسها بأنّها (فاغنر)، وبأنّها تدافع عن الأمن القوميّ لبلادها، وتمارس الجهاد المقدس ضدّ (المعتدين!) الأوكران؛ فهل بقي في الدنيا قبل انصرام عمرها ما يثير العجب أكثر من هذا؟!

وما الذي صنعناه نحن المسلمين؟

لكن على الجانب الآخر يطرح العقل على استحياء هذا السؤال: ما الذي فعلناه نحن؟ كيف كان ردُّ فعلنا تجاه ذلك كله؟ إذا كانوا قد أهانوا القرآن فهل سلمنا – نحن المسلمين – من إهانته على نحو ما؟ أليس الإعراض عنه إلى غيره مما تَغُرُّنا به الحضارة المعاصرة صورة من صور الإهانة له؟ ثمّ: ألسنا نحن من فتح الأبواب على مصاريعها لمرتزقة “فاغنر” واستقوينا بهم على أبناء الوطن والدين؟ ألم يخرج منّا من يروج للمثلية ويمهد للشذوذ ويوطد لكل ألوان الفساد والانحراف؟ ألم نكن نحن بأهوائنا تارة وبجهلنا تارة أخرى من مَكَّنَ للاستبداد؟ إذَنْ فيجب أن تكون المواجهة داخلية وخارجية، وإلا فلن نكون صادقين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق