يا أحفاد الحُطيئة: ما هكذا تورَد الإبل
محمد خير موسى
لا تجدُ أحدا ممّن يمارسُ دورَ الحُطيئة في الدّعوة إلى الله تعالى بجلافةٍ وغلظة إلّا وهو يحفظ ويتلو ويستشهد بقول الله تعالى في سورة آل عمران: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ"، لكنّه لا يفتأ يؤوّل فعله بوجوب الغلظة مع المنافقين وأعداء الدّين؛ ويُدخُل عموم من يخالفه تحت مسمّى أعداء الدّين ليسوّغ لنفسه غلظته.
ولو رأينا بقليل من الجهد السياق الذي نزلت فيه الآية الكريمة فإنّنا سنجد أنّها نزلت في معركة أحد، حيث اضطربت صفوف المسلمين ورجع ثلث الجيش إلى المدينة، وعصا الرّماة الأوامر واستعجلوا الغنائم وفارقوا أماكنهم، وانهزم فريق من المسلمين وفرّوا من أرض المعركة تاركين النبيّ صلى الله عليه وسلّم، معركةٍ ذاق فيها النبيّ صلى الله عليه وسلّم آلاما بالغة وفقدَ سبعين من خيرة الصّحابة، ومع ذلك يأتي الأمر من الله تعالى لنبيّه بأن يكون ليّنا رحيما، مؤكّدا صفة الرّقّة فيه والبعد عن الفظاظة وهو في أشدّ السّاعات التي تبعث على الغضب.
يقول سيّد قطب في "الظّلال" معلّقا على الآية: "فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم؛ فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيما بهم، لينا معهم. ولو كان فظّا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب، ولا تجمّعت حوله المشاعر؛ فالنّاس في حاجةٍ إلى كنفٍ رحيم، وإلى رعايةٍ فائقة، وإلى بشاشةٍ سمحة، وإلى ودٍّ يسعهم، وحلمٍ لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم؛ في حاجةٍ إلى قلبٍ كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والودّ والرضاء، وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع النّاس".
وهذا اللّين والرّفق ينبغي أن يكون مع الخلق جميعا بما فيهم غير المسلمين، يقول الإمام الطّاهر بن عاشور في "التحرير والتّنوير" معلّقا على الآية: "واللِّينُ هنا مجاز في سعة الخلق مع أمّة الدّعوة والمسلمين، وفي الصّفح عن جَفاء المشركين، وإقالة العثرات".
إنّ محاولة تسويغ الجلافة في معارك وسائل التّواصل الاجتماعيّ بأنّها دفاعٌ عن الدّين يردّ عليها موقفُ بديع من مصعب بن عمير رضي الله عنه، وهو أوّل سفير للإسلام أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة ليمهّد البيئة الاجتماعيّة قبل الهجرة؛ وكان يجلس في بستان أسعد بن زرارة فسمع به كلّ من أُسيد بن حضير وسعد بن معاذ وكانا على الشّرك، فجاء إليه أولا أسيد بن حضير، وينقل لنا ابن إسحق المشهد فيقول: "قال: فوقف عليهما متشتِّما فقال: ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلتَه، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهّله".
وبعد ذلك جاء سعد بن معاذ يحملُ حربته غاضبا يريد الفتك بمصعب بن عمير؛ فكان المشهد قريبا من هذا فيقول ابن إسحق: "فوقف عليهما متشتّما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمت هذا مني، أتغشانا في دارينا بما نكره؟ فقال له مصعب: أوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبتَ فيه قبلتَه، وإن كرهتَه عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم؛ لإشراقه وتسهّله".
كلا الرّجلين وقف متشتّما أي يمارس الشتم والإساءة اللّفظيّة بحقّ مصعب بن عمير رضي الله عنه، فكيف واجه مصعب ذلك؟ بالاستيعاب والخطاب العاقل المنطقي وتبيين أنّه سيعرض عليهم كلاما فإن كرهوه سيكفّ عنهم ولن يلحّ عليهم أو يفرضه عليهم؛ هذا الذّوق الرّفيع في التخاطب والتّعامل كانت نتيجته دخول أسيد بن حضير ودخول سعد بن معاذ ودخول قبيلة سعد بن معاذ كاملةً في الإسلام يومها.
بالله لو فعل مصعب كما يفعل اليوم من يحسبون أنّهم سفراء الإسلام ووكلاؤه بالرّد الجلف الغليظ الجافي بحجة الانتصار للإسلام؛ كيف ستكون النّتيجة؟!
twitter.com/muhammadkhm
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق