الخميس، 29 أغسطس 2024

الجاهليّة وتعدّدها في أزمنة التردّي الحضاري

 

الجاهليّة وتعدّدها في أزمنة التردّي الحضاري


محمد خير موسى
كاتب وباحث
مختص بقضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب

لمّا وصف الله تعالى الحقبة التي كانت بين يدي ولادة وبعثة النبيّ صلى الله عليه وسلّم ــ كما بينّا في المقال السّابق ــ أنّها “الجاهليّة الأولى” دلّ هذا بمفهومه أنّ هناك جاهلية ثانية وثالثة ورابعة وهكذا، فهي حالة تصيب المجتمع ولو كان يعيش في ظلال الإسلام ويدين بدين التوحيد، فالجاهليّة إذن منظومة فكريّة لها تجلياتها السلوكيّة الفرديّة والجمعيّة في المجتمع.

 وهنا لا بدّ من التأكيد أنّ وجود حالة فكريّة جاهلية لها تمظهراتها السلوكيّة لا يقتضي وصف المجتمعات بأنّها مجتمعات جاهليّة؛ فوصف المجتمعات أنّها مجتمعات جاهليّة مجازفة كبيرة، وغير سليم لا من حيث إطلاق التوصيف ولا من حيث واقع المجتمعات، وهناك من استعمل وصف الجاهليّة بطريقة تعسفيّة أدت إلى القول بتكفير المجتمعات والوقوف منها موقفًا عدائيًا مع تحريض وتعبئة أدت إلى الانتقال من التكفير إلى التفجير، وأودت بكثير من الحقائق مع الأرواح البريئة، مما جعل استخدام وصف الجاهليّة تكتنفه حساسيّات بالغة وتحيط به ردّات فعل جامحة مما جعل كثيرًا من الكتّاب والدّعاة يتجنّبون استخدامه والحديث فيه.

 غير أنّ وجود حالة جاهليّة تقوم على العصبيّة للكيان أو المكان مما يجب التنبّه له والمبادرة إلى علاجه والتحذير منه والحذر من تحوّله إلى واقع مقبول والأخطر من ذلك إضفاء لبوس فكريّ عليه لتشريعه؛ فأخطر أنواع الجاهليّة هي تلك التي ترتدي ثوب التشريع الإسلامي لتمريرها في العقول وتجذيرها في النفوس.

والجاهليّة الفكريّة التي تقوم على العصبيّة للكيان أو المكان صنو التردّي الحضاري، ففي أزمنة التخلف والتردي والهزائم النفسية تبرز هذه العصبيّات الجاهليّة، فعلى سبيل المثال؛ في الزمن الذي أغارت فيه جيوش الصليبيين على بلاد المسلمين واحتلت المسجد الأقصى المبارك واستباحت أرض المسلمين وارتكبت فيها أبشع المجازر وأفظع الجرائم كان المجتمع يعيش مظاهر عديدة من العصبيات الجاهليّة وكان من أبرزها العصبيّة المذهبيّة، فكان المسلمون على مستوى العلماء والدعاة والعامة يعيشون تعصبًا عجيبًا للمذاهب الفقهيّة، وكانوا يتحاربون ويتقاتلون فيما بينهم لأجل مسائل فقهيّة فرعيّة كانتقاض الوضوء بلمس المرأة على سبيل المثال، بل وصل الأمر إلى أنّ أتباع المذاهب توقفوا عن الصلاة خلف بعضهم بعضًا ووصل الأمر ببعضهم أن يقول: يجوز زواج الحنفيّ بشافعيّة قياسًا على الكتابيّة! 

ولو أنّك دخلت إلى جامع بني أمية في دمشق لرأيت في القبلة أربعة محاريب تدل على هذه الحقبة المظلمة إذ كان لكلّ مذهب محراب يصلون فيه إذا ما أقيمت الصلاة ولا يصلون خلف أتباع المذهب الآخر.

يقول الشيخ علي الطنطاوي في كتابه “الجامع الأموي في دمشق”:

” فلندخل الآن إلى الحرم؛ إن هذه الأبواب المتصلة المفضية إلى الحرم، لم يكن لها في الأصل مصاريع، وإنما كانت عليها الستر إلى حريق سنة ٤٦١. فإذا دخلنا، وجدنا إلى اليسار مشهد أبي بكر، المعروف الآن بمشهد السفرجلاني، ثم مدخل المنارة الشرقية، ثم المحراب المالكي، وهو المحراب الأصلي للمسجد قبل أن يبنيه الوليد، وكان يسمى محراب الصحابة، وأنشئ المحراب الكبير عند عمارة الوليد وجُعل للخطيب.

في سنة 617 نُصب محراب الحنابلة بالرواق الثالث الغربي “قرب البئر” أي وراء الصف الثالث من الأعمدة، وقد عارض في نصبه بعضُ الناس، ولكن ركن الدين المعظمي قام بنصرة الحنابلة، وصلى فيه الموفق ابن قدامة المقدسي، ثم رفع في حدود سنة 730، وعوّضوا عنه بالمحراب الغربي عند باب الزيادة، وهو باقٍ إلى اليوم.

وعمل محراب الشافعي الآن سنة 728 بأمر تنكز، وخص بالحنفية، وصارت المحاريب أربعة: محراب الخطيب، ومحراب الحنفي “وهو الشافعي الآن”، والمالكي، والحنبلي.

وكانوا قبل سنة 694 يصلون في وقت واحد، ثم رُسم للحنابلة أن يصلوا قبل الإمام الكبير، وفي سنة 819 انتقل الإمام الأول من محراب المالكية إلى محراب الحنفية “وهو الشافعي الآن”.

ثم استقرت الحال على أن أول من يصلي إمام الكلاسة، ثم إمام مشهد الحسين، ثم الشافعي، ثم المالكي، ثم الحنبلي، ثم إمام مشهد أبي بكر، ثم إمام مشهد عروة، ثم إمام مشهد عثمان. ثم اقتصر الأمر على أئمة المسجد الأربعة. والعمل على ذلك إلى الآن بهذا الترتيب، أي الشافعي فالحنفي فالمالكي فالحنبلي”

ولم يكن الأمر في الحرم المكي بأحسن حالًا من جامع بني أميّة، فكانت تقام فيه الصلوات بشكل متتابع نتيجة هذه العصبيّة المذهبيّة؛ وقد بدأ ظهور هذه الحال المزرية في القرن السادس الهجري، إذ بني لكل مذهب في المسجد الحرام مقام، وكان أهل كل مذهب يصلون في مقامهم ولا يقتدون بغيرهم، فمقام الحنفية مقابل الميزاب، ومقام المالكية قبالة الركن اليماني، ومقام الشافعية خلف مقام إبراهيم عليه الصّلاة السلام، ومقام الحنابلة ما بين الحجر الأسود والركن اليماني.

وتكون صلاتهم مرتبة، فتقام الصلاة ليصلي أهل المذهب الشافعي، وحين يفرغون من الصلاة تقام الصلاة مجددًا ويصلي الأحناف، ثم المالكية ثم الحنابلة، إلا في صلاة المغرب، فإنهم يصلون في وقت واحد لضيق الوقت، كل مذهب بإمامهم فتتداخل الأصوات ويحدث من السهو واللغط وتقع الفوضى العجيبة.

يقول ابن جبير في كتابه “رحلة ابن جبير” متحدثًا عن رحلته إلى الحج عام 579هـ:

“وللحرم أربعة أئمة سنّية وإمام خامس لفرقة تسمى الزيدية … فأوّل الأئمة السنية الشافعي، وإنما قدّمنا ذكره لأنه المقدّم من الإمام العبّاسي، وهو أول من يصلّي، وصلاته خلف مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا الكريم، إلا صلاة المغرب فإن الأربعة الأئمة يصلونها في وقت واحد مجتمعين لضيق وقتها؛ يبدأ مؤذن الشافعيّ بالإقامة، ثم يقيم مؤذّنو سائر الأئمة، وربما دخل في هذه الصلاة على المصلين سهو وغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة، فربما ركع المالكيّ بركوع الشافعي أو الحنفيّ، أو سلّم أحدهم بغير سلام إمامه، فترى كل أذن مصيخة لصوت إمامها أو صوت مؤذنه مخافة السهو، ومع هذا فيحدث السهو على كثير من الناس، ثم المالكيّ، رحمه الله، وهو يصلي قبالة الركن اليماني، وله محراب حجر يشبه محاريب الطرق الموضوعة فيها. ثم الحنفيّ، رحمه الله، وصلاته قبلة الميزاب تحت حطيم مصنوع له. وهو أعظم الأئمة أبهة وأفخرهم آلة من الشمع وسواها بسبب أن الدولة الأعجمية كلها على مذهبه، فالاحتفال له كثير، وصلاته آخرا. ثم الحنبلي، رحمه الله، وصلاته مع صلاة المالكيّ في حين واحد، موضع صلاته يقابل ما بين الحجر الأسود والركن اليماني. ويصلي الظهر والعصر قريبا من الحنفي في البلاط الآخذ من الغرب الى الشمال، والحنفيّ يصليهما في البلاط الآخذ من الغرب الى الجنوب قبالة محرابه ولا حطيم له. والشافعيّ بإزاء المقام حطيم حفيل” 

وقد كان الجهد الذي بذله صلاح الدين الأيوبيّ قبل أن يقدِم على التحرير العسكري لبيت المقدس أن يعمل على التغيير الفكريّ وتحطيم المنظومة الجاهليّة في عقول النّاس وفي واقعهم المعيشيّ، وقد استعان لذلك بأهل العلم من مختلف المذاهب فكان معه القاضي الفاضل “عبد الرحيم البيساني” وكان معه أيضًا آل قدامة الذين هجرهم الصليبيون من جماعين في قضاء نابلس فأقاموا في دمشق في الحي الذي سمي دلالة على صلاحهم باسم حي الصالحيّة، وفي مقدمتهم ابن قدامة المقدسي صاحب “المغني” وما يزال طلاب العلوم الشرعيّة يتعاملون مع كتاب “المغني” على أنّه من كتب الفقه المقارن فحسب، وفي الحقيقة كان للكتاب مهمّة فكريّة بالغة الأهميّة في العصر الذي ألّفَ فيه وهي تحطيم العصبيّة المذهبيّة من خلال تقديم مذاهب الفقه كلّها في سِفر واحد يدلّ على أنّها بنيان واحدٌ وإن اختلفت تفاصيله.

وكانت المنهجيّة التي انتهجها صلاح الدّين الأيوبيّ مع مَن كان معه مِن العلماء تحطيم العصبيّة للمذاهب مع الحفاظ على المذاهب، فقد حارب العصبيّة المذهبيّة ولم يحارب المذهب، وكان تحطيم هذه العصبيّة الجاهليّة من أهم مقدمات وركائز التحرير العسكري لبيت المقدس وديار المسلمين من الاحتلال الصليبيّ؛ فلا تحرير عسكريّ بغير التحرير الفكريّ، ولقد عبّر صلاح الدّين الأيوبيّ عن هذه الحقيقة حين قال جملته الشّهيرة: ” لا تظنوا أني فتحت البلاد بالعساكر وبالسيوف، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل”

وهكذا هي الجاهليّة القائمة على العصبيّة للكيان أو المكان تظهر في أزمنة التردّي الحضاري؛ إذ تتسرّب العصبيّة الجاهليّة من شقوق الضعف والهزيمة، فتكون تعبيرًا تعويضيًا عن الهزيمة أمام العدوّ، ففي عصرنا هذا برزت العصبيّة الجاهليّة بصور شتّى؛ منها العصبيّة المناطقيّة، إذ يتعامل أبناء مناطق مع غيرهم من أبناء مناطق أخرى من البلد نفسه باستعلاء وازدراء؛ كالعصبيّة الجاهليّة للمدينة تجاه الرّيف، بل قد يصل الأمر إلى العصبيّة الجاهليّة بين أجزاء المدينة نفسها، والعصبيّة الجاهليّة لأبناء القبائل تجاه غيرهم في بعض البلدان، كما برزت العصبيّة الجاهليّة الحزبيّة، وتتمثّل في العصبية للجماعة أو الحزب أو التنظيم أو المدرسة الفكريّة أو المسجد، وهي عصبيّة جاهليّة يتمّ إلباسها ثوب الالتفاف حول الفكرة وهي في الحقيقة التفاف حول الكيان لا الفكرة التي ارتكز إليها، وتقوم على اعتقاد أتباع كلّ مدرسة أو جماعة أو حزب أنّهم جماعة المسلمين لا من جماعة المسلمين، وكذلك من العصبيّات الجاهليّة؛ العصبيّة القُطريّة بحيث يتعصّب أبناء كل دولة لدولتهم بناء على ما رسمه سايكس بيكو من حدود موهومة مصطنعة فترتفع شعارات أن دولتي وقُطري أولًا، وكل هذه العصبيّات الجاهليّة تحتاج إلى تحطيم في الأذهان يقوم على تحطيم العصبيّة للكيان والمكان دون التعرض للكيان أو المكان بالتحطيم بل إعادة الاعتبار له بوصفه وسيلة لخدمة الفكرة والمشروع لا غايةً بذاته؛ تمامًا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع الجاهلية القبليّة إذ هدم العصبيّة للقبيلة فحولها من صنم فكريّ تسجد أمامه عقول أبناء القبيلة إلى وسيلة  للتنافس في خدمة الإسلام. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق