الخميس، 22 أغسطس 2024

حاجة البشرية إلى الإيمان

 حاجة البشرية إلى الإيمان
فضيلة العلامة الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي


إنَّ أحوج ما نحتاج إليه في حياتنا الدنيا وفي حياتنا الأخرى، هو الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه لا نجاح لنا ولا فلاح ولا سعادة ولا طمأنينة لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة، ولا في أنفسنا، ولا في أسرنا، ومجتمعنا، وأمتنا إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى.

امتنان الله عز وجل على البشرية بإرسال الرسل

والله تبارك وتعالى من رحمته بعباده، ومن لطفه، ومن كرمه وعظيم منّه، لم يتركنا هملاً ويدعنا عبثاً، بل أرسل إلينا رسولاً بين لنا الإيمان، وأوضح لنا الطريق، وأبان لنا الحجة، وأظهر الله تبارك وتعالى به دينه على العالمين، وبيَّن لنا ما يسعدنا وما فيه فلاحنا في الدنيا والآخرة، فإذا اتبعنا ما أنزله الله تبارك وتعالى على هذا النبي الأمي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتمسكنا به؛ تغير حالنا من الذل إلى العز، ومن الشتات والفرقة إلى الألفة والمحبة، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الضياع والتشرد إلى الاستقامة والتقوى، ويحدث التغير الذي لا يمكن أن يحدث في أي مجتمع ولا في أية أمة إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى.

شفاء الأمة من الأدواء والعلل بالرجوع إلى الكتاب والسنة

وإن ما تعيشه أمتنا الإسلامية اليوم شرقاً وغرباًُ، لجدير بكل مسلم أن يقف عنده، وأن يتأمله، وأن يفكر في أسبابه ودواعيه، وبالتالي يبحث عن الحل الذي لا حل غيره، وهو الرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن كل ما نعانيه من الأمراض ومن الأدواء ومن العلل لا يكون شفاؤها ودواؤها إلا بالرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الحاجة إلى الإيمان ضرورية

فهو لا يغني عنه أي شيء، ولا أي نوع من أنواع العلم والثقافة، ولا التقدم الحضاري بأي شكل من الأشكال، بل حتى الرقي المادي ورغد العيش والرفاهية المادية لا تتحقق حقيقةً إلا بالإيمان بالله وبالالتجاء إلى الله، عبادةًَ واستعانة؛ ولذلك يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:٩٦] ويقول الله تبارك وتعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) [الجن:١٦] والله تبارك وتعالى ذكر في آي كثيرة ما يدل على أن مسألة الرزق والطمأنينة، والعيش الهنيء الكريم لا يمكن أن يكون إلا بالإيمان بالله، وباللجوء إليه، كما قال نبي الله نوح لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) [نوح:١٠-١٢].

فيتبدل الحال من الفقر والجدب والقحط إلى الرغد والنعيم والحياة الكريمة، وذلك إذا اصطفانا الله عز وجل ورجعنا وتبنا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

 أثرُ الإيمان في فتوحات المسلمين

ولنضرب أمثلة على ذلك مما يتعلق بواقع الجهاد، وحركة الجهاد، وكيف يغير الإيمان المؤمن والأمة المؤمنة في هذا المجال: ماذا كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام وقبل الإيمان؟! وماذا كان جهادهم؟! وعلى من كانوا يغيرون؟!

يقول شاعرهم:

               وأحياناً على بكرٍ أخينا      إذا ما لم نجد إلا أخانا

فهم يتخاصمون لأتفه الأسباب! فيغير بعضهم على بعض، ويسلب بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، وإذا غزا أحدهم فأصاب قطيعاً من الغنم أو الإبل، افتخر بذلك في قصيدةٍ عصماء؛ لأنه حقق هذا الانتصار العظيم!!

والمنتمي إلى هذه الأمة الجاهلية نظرته محدودة، وفكره قاصر، وعقله محدود، وتأملاته وفكره لا يخرج عن دوائر معينه مظلمة، لكنهم لما آمنوا بالله وبرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل بقي ذلك الغزو والنهب والسلب ومعاداة الجيران والقبائل المجاورة؟ لا، بل ذهب ذلك كله، وتحولت هذه الأمة إلى أعظم أمةٍ فاتحةٍ في تاريخ الإنسانية، كما شهد بذلك أكبر فاتحٍ في تاريخ أوروبا التي يقدسها المغرورون من المسلمين، إنه نابليون ، يقول: نابليون في كلمة مشهورة عنه لما استعرض الفتوحات: إن العرب قد فتحوا نصف الدنيا في نصف قرن.

إذاً المسلمون فتحوا معظم الدنيا في نصف قرن!! أي في خمسين سنة!! فهل كان الأمر مجرد انتصار عسكري ثم ينتهي ويضمحل مثلما هو الحال في الاستعمار!!

لا، بل كان الفتح فتحاً للقلوب وفتحاً للأرواح، وكان طمأنينة وأمناً وسلاماً، فكيف تغير التخطيط العسكري عند الإنسان الجاهلي ليصبح في الإسلام على هذا المستوى وبهذه العظمة؟!

 أثر الإيمان في الإنسان

ماذا كان عمر بن الخطاب في الجاهلية؟!

لو لم يأتِ الإسلام لما بلغنا أي شيء عن عمر ولما عرفنا من هو عمر رضي الله عنه، لكن لما أسلم وغيره الإيمان، ماذا أصبح؟!

نأخذ مثالاً من حياة عمر فيما يتعلق بموضوع الجهاد والتخطيط العسكري، حيث أرسل عمر رضي الله عنه الجيوش لمحاربة الفرس، ولاحظ أن المسلمين لم يقولوا نبدأ بالفرس ونترك الروم، أو نبدأ بالروم ونترك الفرس -مع أنهما أقوى دولتين تتحكمان في العالم- أو كيف نحارب تلك الدولتين في وقت واحد وعددنا قليل؟!

نعم هذا صحيح، إلا أن العدة أقل بكثير!! وكل ما يمكن أن يقال بالنظرة المادية وفي التخطيط المادي العسكري يمكن أن يقال هنا، إلا أن هناك إسلاماً يحارب كفراً، وهذا هو الميزان الذي يرجح دائماً في أية معركة وهو أن الإيمان ينتصر على الكفر بإذن الله!!

وكان العرب قبل الإسلام لا يطمحون ولا يطمعون، بل ولا يتخيلون أنهم يحاربون كسرى وحده أو هرقل وحده، فضلاً عن أن يحاربوا الإثنين معاً.

فلما جاء الإسلام، وانطلقت الجيوش إلى هناك، جمع عمر رضي الله عنه الجيوش وأرسلهم، وأخذ يفكر من يختار لحرب الفرس، فوفقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلى سعد بن أبي وقاص ، القائد المشهور، وماذا كان سعد في الجاهلية؟! وماذا كان قبل الإيمان؟!

لم يكن شيئاًَ مذكوراً.

أرسل سعداً وهو يعلم أن هذه المعركة هي أعظم معركة في تاريخ الفتوحات الإسلامية التي خاضها المسلمون مع الفرس، فماذا صنع عمر؟

قال له عمر رضي الله عنه -وعمر لم يكن لديه خرائط للمناطق، ولم يكن لديه وسائل للاتصال المباشر-: إذا نزلت بأرضٍ، فأرسل السرايا، واكتب لي عنها -أي: يكتب له عن طبيعة الأرض- وأنا أوافيك كيف تفعل، فعندما وصلوا إلى أول العراق ، كتبوا له بأن الأرض كذا وكذا وكذا.

فجاء الرد من المدينة: تقدموا عن المدر واجعلوا المزارع من ورائكم، فإن نصركم الله تعالى تقدمتم، وإن كانت الأخرى ترجعون إلى المدر وإلى المزارع وإلى المياه، هذا عمر الذي كان في الجاهلية أعرابياً، ولا يدري ولا يعرف ما هي الخطط، ولا يعرف إلا الكر والفر، فقد كان هذا الذي تعرفه العرب في تاريخها العسكري فقط، لكن الإيمان غيَّر عمر ، فلم يعد عمر ذلك الجاهلي، بل أصبح ذلك الرجل الذي يدير أعظم دولة في عصره بأعظم وأفضل إدارة، وليست القضية هي عسكرية عمر كما يقول البعض، لا، بل القضية هي قضية إيمان يفجر العبقريات، لو أتيت إلى طفل صغير عمره خمس سنوات بالإيمان، لحفظ القرآن، ولعمل الأعاجيب، ولأصبح خطيباً أو عالماً وهو دون العشرين؛ كما كان علماء السلف الصالح .

إذاً: السر هو في الإيمان الذي يفجر الطاقات، وليس مجرد العبقرية التي في الأشخاص.

وكتب الله تعالى النصر العظيم في القادسية ، وكان عمر رضي الله عنه يخرج إلى ظهر المدينة كل يوم، ويتحرق ويتألم منتظراً الأخبار، لأنها معركة حاسمة.

بل إن أكثر المسلمين كانوا يختارون قتال الروم، ولا يختارون قتال الفرس؛ لأن قتال الفرس كان أشد، فكانوا يريدون أن يذهبوا إلى مصر والشام ولا يريدون فارس.

وكان عمر رضي الله عنه يخاف عليهم خوفاً شديداً حتى قال: “وددت لو أن بيني وبين فارس بحراً فلا يصلون إلينا ولا نصل إليهم” فلما كتب الله النصر، أرسل سعد رسولاً من عنده، وذهب يحث الناقة ويطوي القفار؛ ليبشر المسلمين بالنصر المبين، ووصل إلى قرب المدينة وإذا بهذا الرجل -عمر – جالس، يتحرق ويتألم وينتظر! فقال: من أنت؟

فقال: دعني أريد أن أبشر المسلمين وأن أبشر أمير المؤمنين، فيقول: من أنت وماذا تريد؟

فقال: الحمد لله رب العالمين، نصر الله المسلمين، وأريد أن أبشر أمير المؤمنين، ويحث الناقة لتسرع، وعمر رضي الله عنه يسرع على رجليه ولا يلحقه، ولم يقل له: أنا أمير المؤمنين، حتى دخلا إلى المدينة ، وكانت فرحة الانتصار تحث رجلي عمر رضي الله عنه، وهو يسابق الناقة حتى دخلا المدينة ، فاستقبله الناس، وقالوا: أمير المؤمنين.. أمير المؤمنين.

فقال الرجل: رحمك الله يا أمير المؤمنين، هلا قلت لي أنك أمير المؤمنين فأحملك وأبشرك.

ثم أخبره بما حدث من النصر المبين.

وهذا النصر بعد القادسية ، أعقبه أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دخل إلى المدائن! العاصمة التي لا نظير في الدنيا لها في تلك الأيام!!

فلما فتحوها ودخل سعد رضي الله عنه القصر سجد سجود الشكر وأخذ يقرأ قوله تعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) [الدخان:٢٥-٢٩].

فتركوا هذا النعيم، وتركوا هذه البهجة، وهذا الملك لما مقتهم الله عز وجل وهانوا عليه: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج:١٨]، ثم صلى لله شكراً على هذا النصر المبين.

الإيمان والأمانة

إن الإيمان يهذب النفوس، ويربيها، فليس هناك للانتصار زهو ولا خيلاء ولا كبرياء، إنما هو السجود لله عز وجل والاتعاظ والاعتبار بما جعل الله من عقوبة لمن عصاه ولمن خالف أمره واتبع غير سبيله.

وكان من أعجب ما أخذوا من الغنائم البساط، -بساط كسرى- وهذا البساط كان كبير الطول والعرض، وليس هناك من وسيلة لنقله كاملاً، فقالوا لابد أن نقطعه، ويحمل كل جمل ما يستطيع، فقطعه سعد رضي الله عنه ومن معه، حتى أوصلوه إلى المدينة ، وقالوا لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: ألا نريك يا أمير المؤمنين كيف كان يجلس كسرى؟! ففرشوا ذلك البساط، وضموا كل قطعة إلى الأخرى، وعمر رضي الله عنه واقف يتأمل ويتفحص، ويتعجب حيث لم تنقص منه لؤلؤة واحدة، فقال: “إن قوماً أدوا هذا لأمناء” أي: أن جيش المسلمين جيش أمين حين أدى ذلك، لأن ياقوتة واحدة يضعها في جيبه قيمتها بعشرة آلاف دينار! ولم يكن العرب قبل الإسلام يحلمون بألف ولا بمائة درهم أن يكسبها الواحد من أموال كسرى، لكن عمر وجد البساط كاملاً!! فتعجب من هذه الأمانة! وكان بجواره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: “يا أمير المؤمنين عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا” أي: لو أنك خنت لخانوا، فهؤلاء جيشك تربوا على الإيمان الذي تربيت عليه.

إنها الأمانة التي فقدتها الأمة الإسلامية، لأن هؤلاء القوم لم يخرجوا إلا ابتغاء وجه الله، وإنما كانوا يقاتلون في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، وماذا تساوي يواقيت كسرى بالنسبة إلى جنات النعيم؟!

وماذا يساوي أخذ شيء من هذه الدنيا الفانية إذا كان الإنسان متوعداً عليه بغضب من الله عز وجل ونارٍ في الدار الآخرة، فلذلك أدوا تلك الغنائم كاملة وشهد لهم عمر رضي الله عنه بالأمانة.

 الإيمان والانقلاب الشامل

لما كان المسلمون في الحال التي كانوا عليها قبل الإسلام، والتي قال لهم كسرى فيها: كنتم تأكلون الميتة، وتقطعون الرحم، وتنهبون الطريق، وتفعلون وتفعلون، فما الذي جاء بكم؟!

إن كان ذلكم الجوع أطعمناكم، وإن كان العري كسيناكم، وإن كان الظلم أمّرنا عليكم ملكاً عادلاً، فقالوا له: أيها الملك، قد كان فينا مثل ما تقول وأعظم، ولكن الله بعث فينا نبياً هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وأنزل عليه الهدى والنور المبين، فاتبعناه وآمنا به، فابتعثنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لنخرج العباد من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.. لأن السعة والسعادة والطمأنينة لا تكون إلا بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن أول لحظة أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها إبليس وأبانا آدم عليه السلام قال: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) [طه:١٢٣] فهذه تكفل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [طه:١٢٤-١٢٥] وذلك لأن الأصل أن الإنسان يحشر يوم القيامة مثلما كان في الدنيا ولذلك فإنه هنا يقول: أنا لم أكن أعمى حتى تحشرني يوم القيامة أعمى: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه:١٢٦] أي: بسبب أنك تعاليت عن كتاب الله وتعاليت عن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن اتباع أمر الله؛ فاليوم تحشر أعمى.

الإيمان والرخاء والأمن

ونأخذ الموضوع من زاوية أخرى، كيف كانت حياة المسلمين؟

كيف كان المجتمع المسلم يعيش؟

لم يوجد في الدنيا كلها مجتمع يتمتع بالطمأنينة والرخاء والأمن مثل المجتمع المسلم الذي كان يقيم كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فاض المال حتى كانت الزكاة يدور بها الجباة في الأرض، فلا يجدون من يأخذها! ولا أحد يأخذها، حتى لو كان أحدهم قليل المال، فلديه من القناعة القلبية ما يغنيه، فلا تنافس ولا تهالك بينهم على الدنيا!! على عكس ما آل إليه المسلمون بعد ذلك، يريدون أن يأخذوا المال من أي مصدر كان، سواء كان حلالاً أم حراماً، وهكذا كان الوضع من الناحية الأمنية، حيث كان الأمن في ذلك الوقت شيء لا يمكن أن يتصور، مع أنهم كانوا يملكون مساحات واسعة جداً: الصين كانت قد خضعت للمسلمين والهند والأندلس وجنوب فرنسا ، وليس هناك وسائل للاتصال إلا الدواب، والنقل عن طريقها، ومع ذلك تمتعت بأمن لم يكن له أي نظير في تاريخ الإنسانية.

الإيمان وامتثال الأوامر

  • النهي عن شرب الخمر

ولنأخذ مثالاً على ذلك، لما بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان العرب يشربون الخمر، وبقي الأمر كذلك إلى أول الإسلام، ونزل الأمر بتحريمها تدريجياً، ولما نزل الأمر الصريح (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة:٩١] قالوا: انتهينا انتهينا، ولما نادى المنادي في المدينة: إن الله تعالى قد حرم الخمر، ماذا حصل؟!

أريقت الخمور في جميع أنحاء المدينة حتى جرت في الشوارع والأزقة كالأنهار!! بلا تفتيش ولا لجنة ولا هيئة ولا شيء من هذا القبيل!! لأن الإيمان بالله عز وجل قد ثبت في قلوبهم؛ وعندما كان يوجد هناك احتمال أنها حلال أو حرام، كانت موجودة طبيعياً وعفوياًَ، لكن عندما أصبحت حراماً، قالوا: انتهينا انتهينا يا رب العالمين، فأراقوها وتخلصوا من أذاها؛ فهل هذا العمل هين على النفوس؟!

وهل هذا هين على إنسان يدمن الخمر أن يترك الخمر؟!

مع الإيمان لا يوجد شيء اسمه إدمان، ولا يوجد شيء اسمه مستحيل، فمع الإيمان بالله عز وجل رفضت الخمر وأريقت، وصحت القلوب، وصحت العقول من الخمر، لماذا؟

لأن القلوب عامرة بالإيمان بالله عز جل، فهي مستعدة لتنفيذ أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

  • الأمر بالحجاب

ومثال آخر في المجتمع المسلم، حيث كان في أول الإسلام يمشي الرجال والنساء ويعرف بعضهم بعضاً، ويرى الرجل المرأة فيعرف أنها فلانة بنت فلان، ولم يكن قد نزل الحجاب، فلما أن أنزل الله الأمر بالحجاب التزم المسلمون بذلك من أول لحظة، حتى كان الإنسان ينظر إلى النساء وهن كالغربان، لا يرى فيهن أي شيء ظاهر على الإطلاق، فهل من السهل أن الإنسان يحجب زوجته إذا كانت طول حياته كاشفة؟!

ثم يمنع الذي ليس محرماً لها، مثل ابن العم وابن الخال وكل من ليس بمحرم لها أن يراها، هذه عملية صعبة جداً، وكل من عاناها يعرف صعوبتها، لكن مع الإيمان ليس هناك صعب، وليس هناك مستحيل.

بالإيمان تتحقق الاستقامة للفرد والأمة

بلا إيمان لا يمكن أن يستقيم الإنسان -لا فرداً ولا أمة- ولا يمكن أن يكون الإنسان إنساناً حقيقياً أبداً إلا إذا كان مؤمناً بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مطبقاً لما جاء عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحذافيره، فيترقى في درجات الخير وفي الرقي وفي الكرامة وفي العزة، بقدر ما يترقى في الاجتهاد لتطبيق هذا الدين في نفسه وفي مجتمعه وفي أمته، فرداً كان أو أمة لا يختلف الحال، هذا هو الأساس الذي لابد أن يدور عليه صلاح الأمم جميعاً.

المصدر

محاضرة بعنوان: “حاجتنا إلى الإيمان” لفضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي .

     اقرأ أيضا     



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق