السبت، 31 أغسطس 2024

زاوية الانحراف

 زاوية الانحراف

محمد صالح البدراني


فلسفة الانحراف:

الانحراف هو خروج عن الخط مستقيما أم معوجا بزاوية ما، ماهيته أنه اختلاف بنيوي عما يبدو مرتبطا به، ويتسع إن تصورنا محورين باتجاهين مختلفين، ليتطابق مع الاتجاه المعاكس إن كان مستقيما، أو ليتقاطع معه إن كان متعرجا.

عرفنا الانحراف كمصطلح عن الاستقامة الإيجابية، بيد أن الانحراف عن المسار السلبي انحراف أيضا، فالإنسان متنقل في أسباب خروجه وانحرافه عن الصواب أو ما يراه مجتمعه الصواب، ومستغفر منيب لتضعف زاوية انحرافه فتلامس الصفر، وما تراه في مجتمع ما سليما يعد منحرفا في مجتمع آخر، لكن في عالمنا المتعرج البعيد عن الاستقامة، تتقاطع خطوط منحرفة عن مجتمعاتها مع المجتمع  الأكبر،  فتوافقه تارة وتبتعد عنه تارة، ومهما كانت الزاوية صغيرة، فهي ستكبر مع الزمن ببعدها عن منطلقها أو تعدد الانحرافات مع صدمات الحياة، والثابت بها فيما يبدو قليل، لهذا نرى عالم اليوم بحاجة إلى منظومة إصلاح كبيرة تعيد مساره، فالجدليات متعددة والأحداث الصادمة كثيرة، ولن تعيد المنظومة الانحراف المجتمعي كليا إلى الصواب الذي يُتفق عليه؛ لأنه الصواب والتراجع يمحي الخطايا مهما كانت، وبأي منطق عقدي يمكن أن نتعامل معه.

وأجتزئ أثرا من قول لابن عباس يدل على فهم الإسلام في جانب التعامل مع الله والمجتمع وفهم الإسلام للنفسية البشرية؛ "أنَّهُ لا كبيرةَ معَ استِغفار، ولا صغيرة معَ إصرار"، الراوي: سعيد بن جبير، ابن مفلح، الآداب الشرعية (١/١٥٣)، إسناده صحيح. 

إلا أن السلبيات على الأرض قد تتطور وتستمر بالتعاظم، وكذلك الإيجابيات، وإن تراجع محدثها.

النفس البشرية تحلق وتشتط وتفكر وتتفكر وتخطئ وهو طبعها، لكن فاعلية المنظومة العقلية تنحرف بها عن مسار الخطأ لتصل إلى الاستغفار، عندما تستقيم مع استقامة الخط القويم أيا كان هذا الخط الذي سيصل به إلى رضا الله: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر: 53).

الانحراف هنا قد يتمثل بالناس الذين يجعلون لأنفسهم الوكالة، فيكفرون هذا وينجون ذاك ويخالفون الله وهم يظنون أنهم على استقامة. وانحراف هؤلاء الناس بمستويات متعددة، فالفهم هو رأس زاوية الانحراف، ليصل إلى فقدان القيمة الإنسانية.

نستخلص من هذه الفقرة، أن فلسفة الانحراف ترينا أنه ليس بمعنى واحد ولا باتجاه واحد ولا بمستوى واحد، فهو بداية التغيير نحو اتجاه آخر قد يستقر عنده وقد يعود، وقد يتجه بانحراف آخر وزاوية أخرى إلى منطقة فكرية أو سلوكية جديدة له.

الانحراف والسلوك:

الانحراف ليس سلوكا، وإنما السلوك قد يوصف بالانحراف قياسا لقيمة أو معيار، فهو إذن ليس معيارا أيضا؛ فلو تمعنا نجده صفة لحالة أو حراك نسبي لكن غلب الاصطلاح على الأداة، ووحدة قياس مطلقة نسبة لفكرة أو أيديولوجيا أو قيم ما دينية أو اجتماعية.

أما النفاق، فهو انحراف سلوكي لفساد المنظومة، التي صنفها خالقها بأنها الأسوأ، وذلك لخلل دائم في الشخصية؛ عقلية منحرفة مع نفسية وضيعة، وقد تجده أنيق المظهر حسن الكلام يتماهى معك قريبا إلى خطاب غرائزك، لكنه من أبشع الخلق في داخله، التقرب منه إذلال وخسارة لأنه ليس مخلص الحس ولا سوي التفكير، لهذا في الآخرة "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا" (النساء: 145)، لكن ليس من عقاب إلا ما يظهر من سلوك سيئ في المجتمع ومضر للمجتمع، أما إن كان في عون العدو، فذاك يخضع لقانون الخيانة الطبيعي للمجتمع.

الانحراف ليس دوما متصاعدا، وإنما يمكن أن يحدد بقيمة معينة ليكون معبرا عن المرونة:

- الانحراف عن المواصفات التي تحدد قيمة معينة تزيد أو تنقص لمنتج معين، لتكون مقبولة ولا تؤثر سلبيا على النوعية، وهذا ينطبق على كل منتجات وصناعات وأبنية، لكن تختلف النسبة وفق محددات أخرى، كأهمية الجزء وموقعه في المنشأة أو الآلة أو الجهاز.

- الانحراف في الوصول إلى الأهداف عسكرية أو تجارية أو مدنية بشكل عام، حتى ولو كان في ميدان رمي، وهنا تتحدد نسبة الانحراف التي قد لا تقبل أحيانا إلا أن تكون صفرا، فالانحراف في إطلاق النار سيكون ضمن المغزى من الإطلاق، فإن كان الجرح وتسبب بالموت، فهو انحراف غير مقبول، أو أن هنالك إصابة أو لا تكون إصابة، فليس هنالك وصف وسطي معياري.

إن الرشد والمنطق مصوبان مهذبان حارسان لاتجاه ومعادلة وموازنة أي انحراف عن الأهداف، فالاندفاع مثلا قد يكون محمودا بمعيار الإخلاص والولاء، لكن الاندفاع بلا رشد عقبة أمام تمهيد الطريق نحو الأهداف، فالرشد متى وجد يكون الانحراف بالإمكان إصلاحه حتى من الإنسان ذاته، والرشد بالتأكيد معلوم أنه غير الذكاء أو المعرفة، وإنما هو جوهر من النضج مهم يحمي الآدمية في الإنسان.

زاوية أخرى

التجمعات البشرية منها ما يكون مجتمعا إن اعتمد أيا من القيم، ومنها ما يكون جمعا متحركا بالعقل الجمعي في المجموعات البشرية الخاضعة للظلم والاستعباد.

ففي منظومة تنمية التخلف، القيم تُركب ولا تُحمل، والرسالات تؤخذ ظروفها لتعلب بها الأهواء وتنزع الرسوم الحقيقية لتؤطر الصور الزائفة، وينمق كل شيء ليستخدم فيما يظن أنه مصلحة بأنانية طاغية وإنسانية محطمة، لا تندم كما ندم آدم لمخالفته ربه ولا ندم قابيل عندما قتل أخاه، والفرق بين أن تكون سويا ومجرما، ليس كم قتلت أم كم سرقت، وإنما هي الجريمة الأولى والإصرار عليها.

أما المجتمع، فهو إما طالب للحرية عن فكر أو أنه خاضع حالم ينتظر المخلص، فأما من يطلب الحرية عن فكر، فهو لا ينتقم ولا يخرب وإنما يحيل الظالم إلى القانون، وأما إن أتى من يلبس لبوس المخلص، فإن باشر بالقتل فسيتبعه العقل الجمعي ليشارك بالجريمة إلى أن يدرك أنه أبدل مجرما بدل مجرم، وأن التلوث قد أصاب يديه؛ فلا بد أن نصلح الجهاز المعرفي لكي يبنى المجتمع على الفاعلية واليقظة، وتأتي قيادات تنهض بالبلدان وتشيد العمران، وعندها يكون الإنسان إنسانا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق