من يُسدّد حسابات المشهد الإقليمي؟
تجاوزت جريمة اغتيال قائد المقاومة الفلسطينية إسماعيل هنية، تصعيد تل أبيب وحلفائها الأخير على اليمن، ونلاحظ هنا مسارين مهمين لسياسة الدولة الصهيونية في خطوط الحرب الأخيرة؛ الأول خلط عمليات التصعيد في جبهات المحور الإيراني، والثاني رفع تكاليف إبادة تاريخية متعمدة تستهدف غزة، التي تختلف ظروفها كلياً، عن أضلاع المحور الإيراني.
الإبادة الممنهجة
وخاصة في مشهد مذبحة فجر العاشر من أغسطس الجاري، حيث قُصف المصلّون النازحون من رجال وأطفال، وأُحرقت أجسادهم في جريمة حرب كبرى، يغطيها المعسكر الدولي وبالذات واشنطن في الصدارة، فغزة كانت دوماً خارج حسابات هذا المحور، وإن حُسبت على ساحاته بسبب اجتهاد المقاومة للقبول بقواعد اللعبة الإيرانية، التي انفردت في سياقها الخاص، بعد ذلك، كما هو معتاد من عقل طهران الإستراتيجي القديم، في ضبط صراعه مع المركز الغربي، والحفاظ على المصالح المشتركة.
هذه السياسة تنتقل إلى هدف مهم سنعود له في خاتمة المقال، لكن لا بد من البدء بقضية قصف الحديدة، وما تمثله من توسع في دائرة الصراع الإقليمي وقواعده.
الخلاف على توسيع دائرة الاشتباك
لقد ظل التساؤل قائماً منذ عمليات الحوثي النوعية- رغم محدودية تأثيرها العسكري- حول طبيعة الرد الإسرائيلي، لكن كانت مناوشات الحوثيين تُمثل تضييقاً لوجستياً مقلقاً للحكومة الصهيونية، دون أن تعطي أي تأثير مباشر أو فعّال على وقف المحرقة، أو آلة العدوان النازي الإرهابي على غزة وأهلها.
وليس بالضرورة أن يكون هجوم المسيرة الحوثية على تل أبيب سبباً مشرِّعاً لتل أبيب لقصف ميناء ومخازن الحديدة، في العدوان الصهيوني الأخير على اليمن، إذ إن التخطيط للرد على مناوشات الحوثي، تم غالباً بعد جملة عمليات الحوثيين في البحر الأحمر، وعبر محاولاته السابقة للوصول إلى أهداف صهيونية.
هل يختلف اليمن؟
ليست مهمة هذا التحليل السياسي، مناقشة وضع تحرك الحوثي منذ بدء العدوان، وسياقه في السلة الإيرانية، المرتبطة به بالضرورة، فهو في النهاية أحد الأذرع الإيرانية التي أسقطت الدولة والجمهورية، وضمتها إلى الإمبراطورية الطائفية، لكن يبقي لليمن كينونته الخاصة، رغم الخطاب والولاء الطائفي المطلق للحركة الحوثية، التي تزحف بسرعة لتتحول إلى نسخة من حزب الله الإيراني في لبنان.
غير أن الجذور اليمنية وروحها العتيقة، لم تُمسخ فيها الكيانية العربية، كما جرى لميلشيات لبنان والعراق، ولذلك ثبّتنا هنا مساحة واردة للحوثي بأن تَحرُّكهُ يجمع بين هدف الشعبوية، التي يصعد بها إلى موقع جديد في سيطرته على الشمال اليمني، وأيضاً روح مناصرة حقيقية لفلسطين المحتلة، وللمغدورين المحاصرين في غزة.
ولذلك نعود هنا لتحرير قضية رئيسة، وهي سؤال ما بين الحُديدة واغتيال هنية في تجاذبات المسرح الإقليمي، وهو سؤال ينشطر إلى قسمين: ما بعد الحديدة، وما بعد غزة.
الإستراتيجية الأمريكية مع طهران
إن الإستراتيجية الأمريكية، ظلت تسعى لعزل عمليات الحوثي وعدم دمجها في حرب غزة، وواصلت الحفاظ على سلسلة التواصلات والتهدئة مع النظام الإيراني، حيث لا مشكلة رئيسة تواجهها واشنطن- ولا طهران- في العودة إلى مساحة المفاوضات السياسية، والتي خطَت فيها طهران خطوات سريعة منذ بروز معادلة ذبح غزة، وبالتالي التركيز على أن التهدئات تشمل العراق ولبنان، ثم العودة إلى الاتفاق التاريخي بين واشنطن وطهران، الذي عُرقل مراراً، لكنه لم ينفصل عن هدفه حتى في عهدة ترامب.
نُذكّر هنا بمسارين مهمين، مثلهما خط نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني مع السفير الأمريكي في بيروت، وخط نواب الميلشيات الطائفية في برلمان العراق مع السفيرة الأمريكية في بغداد. إنّ تفعيل هذين الخطين المستمر يؤكد قرار إيران الإستراتيجي في الحفاظ على مستوى قاعدة اللعبة في الإقليم، وحرصها القطعي على عزل مصالح الجمهورية الإيرانية، وتخفيف آثار قواعد الصراع النسبي في العراق ولبنان على أذرعها المباشرة، والتي- في تقديري- لا يزال الحوثي فيها خارج مستوى التأهيل والتصنيف المتقدم في عقل طهران العميق، رغم كل خدماته الواسعة لها.
ولذلك نحتاج التدقيق في سقف المستوى الذي تؤطره طهران، لحراك الحوثي، والذي لا يُستبعد أن سقف عبد الملك الحوثي قد يتجاوزه، فأثر الارتداد على اليمن لا يضّر المصالح القومية العليا لإيران، كما أن ذبح غزة كان مؤهلاً للاستيعاب من قبل الإيرانيين، دون الحاجة لتعريض مناطق حزبها في بيروت والجنوب اللبناني لمستويات مماثلة. وواشنطن نفسها قد ترى الزج بدعمها المطلق للعدوان الصهيوني على اليمن مكلف دون مبرر، وتفضل أن تكتفي برسائل قصف محددة لبنك الأهداف المختارة في اليمن.
هل تهدد سياسات نتانياهو الأمن الغربي؟
وخاصة حين يُغذي عقل نتانياهو الإرهابي مسار الانتقام المبعثر، ونقصد بالانتقام المبعثر العمليات الفردية في داخل الدول الغربية، أو التي تستهدف قواعدها العسكرية ومصالحها النفطية في الخليج العربي.
فهذه الرسائل التي تؤسس لها سياسة نتانياهو ومجمل الكابينة الصهيونية قد ترتد على الجغرافيا الغربية، عبر المجموعات الإرهابية كنموذج داعش أو نسخ متطورة من القاعدة، وإن كانت هذه المجموعات قد خضعت لتوظيف أمني كبير، لكن ذلك لا يضمن تسرب إحدى مجموعاتها إلى جغرافيا الدول الغربية.. والغريب أن هذا المدار الخطر، تم تجاوزه من واشنطن لتأمين دعم مطلق لتل أبيب.
فاندفاع نتانياهو في إعلان المواجهة مع اليمن- ضمن عدوانه النازي على غزة- لا يُعتقد أنه يُطمئن واشنطن، وخاصة أنه لا توجد في الأصل مساحة مراعاة للخسائر المدنية في أبناء الشعب اليمني، التي ارتكب فيها التحالف الخليجي مجازر كبرى، وكان الهم الأكبر للحوثي هو توظيف قُداس الضحايا في بطاقة ولاء له، والانتقام من الشعب غير الموالي له، ليُصفي من طرفه من يعرقل عودة الإمامة لكن بنسختها الحوثية، فلن تتحمس واشنطن للدخول في مثل هذه المغامرة، غير أنها اليوم في ورطة حقيقية معها.
كشف حساب الخليج العربي
وأسوأ كشف حساب للخليج العربي، هو ما عبّر عنه بيني غانتس، القيادي الصهيوني المخضرم، من زعمه أن عملية العدوان على اليمن- وهو الشقيق العربي اللصيق لأهل الخليج- هو لحساب الأصدقاء، وهو يشير هنا إلى بعض الدول الخليجية، وهو فخ خطير وطعمٌ، لو بلعته حكومات الخليج العربي، فستحقق تل أبيب نقلة مهمة، لتحويل كشف حساب العدوان إلى فواتير على أهل الخليج العربي.
وبيان الرياض بأنها لا علاقة لها بالعملية، وأنها ترفض هذا العدوان، قد يكون خطوة مقبولة نسبيًّا للبناء عليها، غير أن هذا الأمر لا يُعَد كافياً، وواضح هنا أن المراهنة على تحويل المواجهة إلى عملية تقليم أظافر كبرى لطهران هي وهْم كبير، فكل دورات الضجيج وكل المواجهات حقيقية، ولا نقر بالمزاعم الغبية بأنها حالة مسرحية، ولكنها قواعد صراع تظل تحت السيطرة ويَبني عليها الغرب، جولة مفاوضات جديدة.
العرب خارج قواعد الصراع
إن كارثة السياسة الخليجية مع طهران ظلت تستنزفها في دورات عديدة، ودخلت عبرها في صراع مع الوطن العربي والتيارات الإسلامية فيه بحجة مواجهة المشروع الإيراني الزاحف، فلا هي أوقفت المشروع- بل ساهمت سياساتها في تمكينه-، ولا هي حافظت على مستوى مقبول من علاقاتها مع الشعوب العربية.
ولذلك، فإن هناك واجبًا تصحيحيًّا، سياسيًّا مصلحيًّا، إن لم يؤخذ ببعده الأخلاقي، وهو الخروج من هذا المدار المشترك مع الكيان الصهيوني، الذي ورطتهم به سياسة واشنطن، ثم حبل الصهيونية العالمي، حتى بات خطاب البعض في الخليج العربي تشمئز منه كل روح إنسانية عاقلة، ترى ما يجري في غزة من مذبحة التاريخ المعاصر الأشنع.
وفي الحالة اليمنية، هناك ضرورة لإعلان نهاية الحرب من طرف الرياض بعمل سياسي تنفيذي، حتى مع تعنت الحوثي وشروطه، قد يُعطي مساحة لما بعده من معالجات سياسية، وإن كان الصراع قد يستمر- مع الأسف- بين أطراف الشرعية ومشروع الحوثي الطائفي المتشدد، لكن الرياض يمكن على الأقل أن تمهد بالتنسيق مع مسقط لاتفاق إعلان الحرب، ودعم حوار جاد بين اليمنيين في الشمال والجنوب، وهذا ما تعيقه مصالح أبوظبي أيضاً، وبالتالي ضبط قاعدة ثابتة للمعالجة صعب جداً، لكنه على الأقل تجنب للانزلاق إلى الأكثر سوءًا، في وحل الزمن الإسرائيلي الإيراني المشترك.
العبور الإيراني مجددًا
هنا نفهم ما بدأنا به التحليل، من أن هذا التصعيد يتزامن مع إعلان بايدن الأخير بقرب إنجاز صفقة، وأن الرد الإيراني المنتظر قطعا سيكون تحت السيطرة (under control)، وتعبر واشنطن لاتفاق جديد تحتاجه الولايات المتحدة الأمريكية في ظل زحف المشروع الصيني الروسي، وتحتاجه طهران بالضرورة لجسر عبور مهم، داخلي وخارجي، فهناك إنهاك للقوى الإيرانية، وصراعات برز خطرها في إعلان الدولة الإيرانية عن شخصيات تم اختراقها من الموساد في مواقع حساسة.
وفكرة أن الرئيس الإيراني الحالي مسعود بزكشيان زعيم إصلاحي، دفع بها المرشد لكي تُستثمر في هذه المرحلة المهمة لطهران مع الغرب.
أما الوطن العربي- وخصوصا مصر والخليج العربي- فهو لا يزال يحصد خسائره، وإثم خطيئته في تحالف بعضه مع الفكرة الصهيونية وطعنه للمستضعفين، وتبقى غزة وحدها هي التي دُفعت للمحرقة، فيُكشف المشهد حين تبرز مخرجات الصفقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق