من معالم الهدي النبوي.. تعامله ﷺ مع رحِمه
إن اتّباع سنة النبي ﷺ والإذعان والانقياد لها من مقتضيات الإسلام، وركن من أركان الإيمان، وشرط في قبول الأعمال. قال تعالى: ﴿فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربّه أحدًا﴾.
والاتّباع هو الاقتداء والتأسّي بالنبي ﷺ في الاعتقادات والأقوال والأفعال والتروك، مع توفر القصد والإرادة في ذلك كله. قال تعالى: ﴿ لقد كان لكم في رسول اللّه أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر وذكر اللّه كثيرًا﴾ [الأحزاب: 21]، فرسول الله ﷺ هو الميزان الأكبر الذي توزن بنهجه الأعمال، فكل قول أو فعل أو دعوى لا قيمة له حتى يتم وزنه بالميزان الأكبر، وهو سُنّة رسول الله ﷺ.
وقد أمر الله تعالى باتباع نبيه، فقال: ﴿واتّبعوه لعلّكم تهتدون﴾ [الأعراف:158]، ونحن نعلم أن محبة الله لنا ومغفرته لذنوبنا تكون باتباعه ﷺ.
قال تعالى: ﴿فاتّبعوني يحببكم اللّه ويغفر لكم ذنوبكم﴾ [آل عمران: 31].
وهذا يبين أن اتّباعه أمر ممكن، وإلا لما أمرنا بذلك ورغَّبنا فيه، وحقيقة ذلك أن يكون المرء مؤمناً بما جاء به، مصدقًا لما أخبر به، متّبعًا لسنته، متمثلًا سمته، متحريًا هديه في عباداته ومعاملاته، مع كمال محبته وصدق موالاته.
هديه ﷺ في التعامل مع رحِمه:
امتازت سيرة رسول الله ﷺ في التعامل مع أهل بيته بحسن وطيب المعشر، فقد كان رسول الله ﷺ رحيمًا بهم، رؤوفًا وعطوفًا عليهم، يحبّهم ويعتني بهم، ويُظهر لهم أعظم المشاعر وأجملها وأجلّها، فيرفع شأنهم ويكرمهم، ولا يذلّهم ولا يهينهم، ويعطف عليهم ولا يؤذيهم، وينصحهم دون تعنيفٍ وتجريحٍ، وقد جعل رسول الله معاملة الرجل لزوجته وأهل بيته بالحسنى معيارًا من المعايير التي يتفاضل بها الرجل عن غيره، فقال ﷺ “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”، وقد روت عائشة -رضي الله عنها- حديثًا تصف فيه رحمة رسول الله في تعامله، فقالت: “ما ضرب رسول الله ﷺ شيئًا قطّ بيده، ولا امرأةً، ولا خادمًا، إلّا أن يجاهد في سبيل الله”.
تعامل النبي ﷺ مع زوجاته:
كان النبيّ ﷺ خير مثالٍ وقدوةٍ في تعامله مع زوجاته، فقد كان يعاملهنَّ بالرحمة والرأفة والحكمة، ويظهر ذلك جليًّا في الكثير من المواقف في سيرته العطرة.
فقد كان النبيّ الكريم سهلًا وليّنًا وكريمًا في التعامل معهنّ؛ فإن أرادت واحدةٌ منهنّ شيئًا لا محذور فيه فعله لها وكان بجانبها، وكان النبيّ يسمح لأهله بالاستمتاع والنظر إلى اللّهو المباح؛ ومنه ما ذكرته عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله كان جالسًا في يومٍ من الأيام، فإذا بصوت صبيان، فنظر رسول الله فرأى صبيةً وأطفالًا من الحبشة يلعبون ويصدرون أصواتًا، فقال رسول الله ﷺ: “يا عائشة، تعالي فانظري، فأتت السيّدة عائشة وأسندت رأسها على كتف رسول الله، وجعلت تنظر إليهم، ورسول الله يقول لها: “أما شبعتِ؟”، فتردّ عائشة بالنّفي في كلّ مرةٍ، وقصدها بذلك أنها تريد أن ترى مكانتها عند رسول الله. فذلك مما كان يتّصف به رسول الله من حسن العشرة، والصبر على ما تريده زوجاته.
وكان ﷺ يسمح لزوجاته بسماع الغناء المباح في العيد؛ فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله جاء وعندها جاريتان تغنّيان، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه إلى النّاحية الأخرى، فدخل أبو بكر ونهرَ عائشة؛ لما تقرّر عنده من كون الغناء واللّهو ممنوعًا، فأمره نبيّ الله أن يدعهنّ ويتركهن؛ فقد كان يوم عيدٍ وسرورٍ، ولكون ذلك من اللّهو المباح، وفي ذلك توسعةٌ من رسول الله على زوجاته وعياله للترويح عن أنفسهم، كما كان يرفق بهم ويبسطهم.
وكان النبيّ الكريم يسابق سيّدتنا عائشة في الجري، ومن ذلك أنّ عائشة أم المؤمنين خرجت معه في سفرٍ، فطلب منها أن ينافسها بالسّباق، وكانت عائشة حينئذٍ نحيلة -أي نحيفة-، فتسابقت معه، فسبقته، ثمّ سافرت معه في مرةٍ أخرى، وقد سمنت وزاد وزنها، فطلب منها أن يسابقها، فتسابقا وسبقها، فضحك رسول الله ﷺ وقال لها: “هذه بتلك السّبقة”، أي إنّه سبقها ﷺ كما سبقته في المرّة الأولى.
وكان النبيّ في سفره يأخذ معه من زوجاته، ويتحدّث معهنّ، ويقوم بتسليتهنّ، وكان حين يريد أن يخرج في سفرٍ له؛ يدخل أسماء زوجاته في قرعةٍ، وفي مرّةٍ خرج اسم حفصة وعائشة، فأخذهما معه. وكان -عليه السلام- إذا حلّ اللّيل ذهب إلى عائشة ليسير معها ويتبادلا أطراف الحديث، وكان ﷺ يمزح مع نسائه، ويسمح لهنّ بالمزاح فيما بينهنّ، وكان رسول الله يستمع إلى ما ترويه له زوجاته من الطرائف.
وكان ﷺ يحرص على تعليم زوجاته، ليجعل منهنّ قدوةً لنساء المؤمنين، ولأنّه مسؤولٌ عنهنّ كما قال: “إنّ الله سائلٌ كلّ راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيّع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته”، كما كان يعلّمهنّ أداء العبادات؛ الفروض والنوافل، وقد روت أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها-: “استيقظ رسول اللّه ﷺ وسلّم ليلةً فزعًا، يقول: سبحان اللّه، ماذا أنزل اللّه من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه لكي يصلّين- رُبّ كاسيةٍ في الدّنيا عاريةٍ في الآخرة”، فبعد ذلك أمر زوجاته بالقيام للصلاة.
كما كان إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان اجتهد بالعبادة، وأيقظ أهله للصلاة والدعاء، ويحرص رسولنا الكريم على تربيتهنّ على الإخلاص فيما يقمن به من العبادة، وكان نبيّ الله يعلّم زوجاته الاستعاذة من كل شرّ، ويحثّهنّ على الإكثار من ذكر الله تعالى، مثل أذكار الصباح والمساء.
تعامل النبي مع أبنائه وبناته:
حرص رسول الله ﷺ أن يكون أكثر الناس رعايةً لأهله وإعالةً لهم وصلةً بهم، وقد وُلد له أربع بناتٍ وثلاثة أولاد، فكان يختار لهم أفضل الأسماء وأحسنها، وشاء الله سبحانه أن يموت أبناؤه الذكور في الصّغر، وكان يفرح بولادة البنات، ويظهر السرور على ذلك، ويشكر الله على هذه النّعمة الطيّبة، وقد ربّاهنّ أحسن تربية، وأدّبهنّ أحسن تأديب، وزوّجهنّ أحسن الرّجال، وكان يستشيرهنّ في ذلك، ولا يغالي في مهورهنّ؛ فقد زوّج ابنته فاطمة بعليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهما)، وجعل مهرها درعًا يدفعه عليًّا إليها تيسيرًا عليهما.
وكان حين تأتي إليه إحدى بناته يكرمها ويستقبلها خير استقبال، فقد روت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) وهي تصف فاطمة إذا جاءت للرسول، فقالت: “وكانت إذا دخلت على النّبي ﷺ قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النّبيّ ﷺ إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبّلته وأجلسته في مجلسها”.
وكان رسول الله يحثّ فاطمة ويأمرها بتحمّل مسؤولية نفسها، ويخبرها أنها محاسبةٌ عن نفسها أمام الله، وأنّه لا يستطيع أن ينقذها من الحساب، فكان يقول: “يا فاطمة، أنقذي نفسك من النّار، فإنّي لا أملك لكم من الله شيئًا”، كما كان يدعوها ويحثّها على قيام الليل.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يتفهّم ما يصيب بناته من الحزن والغضب، ويغضب لهنّ، ويحرص -عليه السلام- على إدخال الفرح إلى قلوبهنّ حتى في وقت الشدّة، فقد جاءت يومًا فاطمة إلى النبي، فرحّب بها وأجلسها بجانبه، وجعل يحدّثها كلامًا بينها وبينه؛ فبكت فاطمة (رضي الله عنها)، وسألتها عائشة عمّا يبكيها، فلم تجب، ثم عاد فتحدّث إليها، فضحكت فاطمة (رضي الله عنها)، وبعد وفاة رسول الله قالت إنه أخبرها بدنوّ أجله، فبكت، ثم أخبرها أنّها ستكون من نساء الجنّة، وأنّها أوّل من سيتبعه من أهل بيته، فضحكت.
وكان نبيّ الله يقف مع بناته في المصائب والشدائد، ويخفّف عنهنّ، فقد بعثت إليه إحدى بناته يومًا أنّ ابنًا لها قد توفّي، فقال: “إنّ لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلٌّ عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب”، فبعثت إليه مرةً أخرى ليذهب إليها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت؛ وصحابة غيرهم، فلمّا أحضروا المتوفّى؛ بكى رسول الله ﷺ فقال سعد -رضي الله عنه-: “يا رسول اللّه، ما هذا؟”، فقال: “هذه رحمةٌ جعلها اللّه في قلوب عباده، وإنّما يرحم اللّه من عباده الرّحماء”.
تعامل النبي مع أحفاده:
كان تعامل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مع أحفاده، ومع الأطفال الصّغار في المسجد، بمنحىً آخر يختلف عمّا يتعامل به كثير من الناس في وقتنا الحاضر. وفيما يأتي ذكر بعضٍ من هذه المواقف:
كان الحسن والحسين -رضي الله عنهما- يصعدان على ظهر رسول الله ﷺ في صلاته وهو ساجدٌ، فإن قام أحدٌ يريد منعهما أشار إليه رسول الله أن يتركهما، فإذا فرغ من صلاته أخذهما إلى حضنه. وكان يحمل أمامة بنت العاص ابنة بنته زينب في صلاته، وحين يركع يضعها على الأرض، ثم إذا رفع أخذها مرةً أخرى.
قال رسول الله ﷺ: “إنّي لأدخل في الصّلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبيّ، فأتجوّز في صلاتي ممّا أعلم من شدّة وجد أمّه من بكائه”.
توصية النبي بالإخوة والأخوات:
جعل الإسلام حقوقًا عظيمةً للأخوات، كما جعل حقوقًا لغيرهن من الأرحام، ومن هذه الحقوق مساعدتهن والإنفاق عليهن؛ فقد قال رسول الله ﷺ “من عال ابنتين أو ثلاثًا، أو أختين أو ثلاثًا حتّى يبنّ أو يموت عنهنّ؛ كنت أنا وهو في الجنّة كهاتين، وأشار بأصبعيه السبّابة والتي تليها”، ووجه إلى حمايتهن والوقوف إلى جانبهن، والدفاع عن حقوقهن.
إن الاقتداء بالنبي ﷺ، والتعلم من سيرته وحكمته، يؤتي ثماراً عظيمة في حياة الفرد والمجتمع، منها تحقيق السلام الداخلي، فمن خلال اتّباع أخلاق النبي ﷺ، مثل الصبر والرحمة والتسامح، يستطيع الإنسان أن يحقق سلامًا داخليًّا ويعيش حياة متوازنة ومستقرة، وأن يكوّن شخصية قوية مؤثرة، فالاقتداء بالنبي في القيم الأخلاقية مثل الصدق والأمانة والعدل، يساعد في بناء شخصية قوية ومؤثرة، ويجعل الشخص قدوة حسنة في محيطه.
بالإضافة إلى ذلك فإن الاتباع يعزز الروابط الاجتماعية، فالنبي ﷺ علمنا كيف نبني علاقات اجتماعية قائمة على الاحترام والتعاون والتفاهم، وإن اتباع هذه القيم يؤدي إلى تقوية الروابط الأسرية والاجتماعية والإنسانية والأخلاقية.
كما أن اتّباعه ﷺ يحقق النجاح في الحياة الدنيا والآخرة؛ فتطبيق تعاليمه ﷺ في الحياة اليومية يوجه الفرد نحو النجاح الحقيقي، سواء في الحياة الدنيا أو في الآخرة من خلال اكتساب رضا الله، كما أن ذلك يُكسب الاستقامة والسلوك الحسن، إذ يتعلم الإنسان كيفية التصرف بحسن الخلق في جميع المواقف، ما يؤدي إلى بناء سمعة طيبة وثقة من الآخرين.
وباتباعه أيضاً تكون تنمية الروحانية، إذ إن الاقتداء بالنبي يساعد الفرد في تنمية علاقته بالله من خلال تعزيز العبادة والذكر، ما يقوي الإيمان ويزيد من التقوى.
كما أن التمسك بهديه ﷺ ينمي الخير والسلام في المجتمع، فاتباع هدي النبي في التعامل مع الآخرين برحمة وعدل يسهم في نشر السلام والخير بين أفراد المجتمع، ويوجه الحياة نحو غاية سامية، عن طريق التعلم من النبي بأن لكل فعل نية، وأن كل عمل صالح يقرب الإنسان من الله، ما يعطي الحياة معنى وغاية سامية، ومقاصد نبيلة وسليمة، فالاقتداء بالنبي ﷺ ليس فقط أمرًا دينيًّا، بل هو أيضًا وسيلة لتحقيق السعادة والنجاح في شتى مجالات الحياة؛ في المعاملات، في التربية، في الإصلاح، في البناء، في الأخلاق والتزكية، في الأسلوب والنهج وفي الخير والإحسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق