إسرائيل والحرب الإقليمية: دوافع القلق الوجودي
في ذروة الاستنفارات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية والسياسية والاقتصادية التي يشهدها الشرق الأوسط نتيجة التوترات المتصاعدة، كانت الأنظار موجهة نحو العاصمة القطرية الدوحة، حيث عُقدت جولة جديدة من المفاوضات بين إسرائيل من جهة، ومصر وقطر كوسيطين من جهة أخرى.
هذه الاستنفارات جاءت على خلفية عدة عوامل، أبرزها القلق من الرد الإيراني المحتمل على اغتيال القائد إسماعيل هنية في طهران، والذي اعتبرتْه إيران اعتداءً صارخًا على سيادتها وشرفها، ما دفع المرشد الأعلى للتوعد بردٍّ حاسم، كما أعلن حزب الله اللبناني عزمه الرد على اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر، فيما هدد الحوثيون في اليمن بالانتقام بعد القصف الإسرائيلي لميناء الحديدة.
الولايات المتحدة- بالطبع- أخذت دور المحرك الأساسي في هذه المباحثات، حيث أشاعت في البداية أجواء من التفاؤل بإمكانية التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، خاصة في غزة التي شهدت تصعيدًا دمويًا، لكن مع نهاية المباحثات في 16 أغسطس/ آب، اتضح أن إسرائيل ما زالت تعتمد أسلوب المماطلة والتهرب والتعنت؛ وهذا النهج يعكس بوضوح عدم اهتمام إسرائيل بإبرام أي اتفاق، وقد تجلى ذلك في إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هذه السياسة منذ بداية العملية التفاوضية.
في المقابل، أبدت حماس من جهتها إيجابية في التعامل مع هذه الجولة، وأعلنت الالتزام بالمقترح الذي وافق عليه الرئيس بايدن مطلع يوليو/ تموز الفائت، إلا أنها مع إعلان بيان الوسطاء وصفت الأجواء بأنها “مخيبة للآمال”.
إزاء هذا الواقع، يتبادر إلى الذهن سؤال محوري: ما هي دوافع إسرائيل الحقيقية وراء رفض الصفقة، والدفع نحو إشعال حرب إقليمية في الشرق الأوسط؟ أتسعى إسرائيل إلى مجرد تعطيل التسوية، أم إن هناك أسبابًا أعمق تتعلق بقلق وجودي متجذر يدفعها لاتخاذ قرارات تحمل في طياتها مخاطر جمة؟ أتكون تصرفاتها العدوانية تجاه طهران وبيروت والحديدة جزءًا من استراتيجية محسوبة، أم إنها تعكس خوفًا من تهديد وجودي متنامٍ؟
“لدى العالم العديد من الصور لإسرائيل، لكن إسرائيل لديها صورة واحدة فقط لنفسها.. صورة شعب في طريقه إلى الزوال”.. هذه الكلمات للفيلسوف اليهودي شمعون رافيدوفيتش تختصر الجوهر العميق للقلق الوجودي الذي يسيطر على العقلية الإسرائيلية، وهذا القلق ليس مجرد هاجس نفسي، بل هو واقع سياسي وعسكري وثقافي يتجلى في سياسات إسرائيل العدوانية تجاه جيرانها في الشرق الأوسط، وفي تعاطيها مع الأزمات الإقليمية.
منذ اندلاع معركة “طوفان الأقصى”، كرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحديث عن “حرب وجودية” تخوضها إسرائيل، واصفًا إياها بـ”حرب النور على الظلام”، ولم تخلُ خطاباته، بما فيها كلمته أمام الكونغرس الأمريكي، من الإشارات إلى المعاني الدينية لهذه المعركة.
غير أن هذه التصريحات تتجاوز البعد الديني وحده؛ فهي تعكس قلقًا عميقًا يتغلغل في الوعي الجمعي الإسرائيلي، بدءًا من القيادة السياسية وصولًا إلى المستوطن العادي. هذا القلق يرتبط بفكرة “لعنة العقد الثامن”، التي أشار إليها عديد من المؤرخين الإسرائيليين، والتي تؤمن بها شريحة واسعة من المجتمع الإسرائيلي، حيث تعتقد أن الكيانات اليهودية في فلسطين لم تعمر أكثر من ثمانين عامًا.. يضفي هذا المعتقد على القلق طابعًا تاريخيًّا يمتزج بالمعتقدات الدينية.
في هذا السياق، يمكن فهم السلوك العدواني لإسرائيل كجزء من استراتيجية أوسع، تهدف إلى تأمين وجودها عبر إشعال صراعات إقليمية. يتجلى هذا السلوك بوضوح في تصعيد الهجمات ضد حزب الله، واستهداف القائد إسماعيل هنية في طهران، وتزايد وحشية الاعتداءات على غزة، التي كان آخرها مجزرة مدرسة “التابعين” مطلع أغسطس/ آب الجاري.
يرى نتنياهو أن الدفع نحو حرب إقليمية شاملة، مع دعم الولايات المتحدة، قد يكون السبيل الأمثل للقضاء على التهديدات الوجودية المتمثلة في إيران ومحور المقاومة، إلى جانب تعزيز عملية التطبيع مع دول المنطقة، وبالتالي إطالة عمر إسرائيل. ومع ذلك، فإن هذا النهج العدواني يشير إلى أن إسرائيل تسعى إلى تفجير صراع إقليمي تأمل في التحكم ببدايته، لكنها قد تجد نفسها عاجزة عن السيطرة على تداعياته.
وبالعودة إلى فكرة “لعنة العقد الثامن” يجدر الذكر أنها تستند إلى رواية تاريخية، يؤمن بها عدد كبير من المؤرخين الذين يدرسون تاريخ الوجود اليهودي في فلسطين.. ووفقاً لهذه الرواية، أنشأ اليهود على مر التاريخ كيانين سياسيين في فلسطين، وكلاهما انهار في العقد الثامن من وجوده؛ أولهما كان مملكة داود وسليمان، التي تأسست حوالي عام 1000 قبل الميلاد، ولم تعمر أكثر من ثمانين عاماً قبل أن تنقسم وتنهار تحت ضربات الآشوريين والبابليين؛ أما الكيان الثاني فهو مملكة الحشمونائيم، التي تأسست حوالي عام 140 قبل الميلاد خلال فترة الحكم اليوناني لفلسطين، والتي دخلت في فوضى كبيرة في عقدها الثامن، أدت إلى سقوطها.
وفي مايو/ أيار 2022، عبّر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك عن مخاوفه بشكل صريح، مشيرًا إلى احتمال زوال دولة إسرائيل بناءً على “سنة التاريخ اليهودي”.
هذه المخاوف جعلت إسرائيل مع اقترابها من عقدها الثامن أمام خيارين: إما السعي لإطالة عمرها عبر القضاء على أعدائها، وتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، والمضي قدمًا في حملة التطبيع.. أو الاستسلام لقدرها التاريخي.
في ظل هذه المعطيات، تحاول إسرائيل توحيد شعبها في مواجهة ما تسميه “حرب البقاء”، في محاولة لتجنب مصير الكيانين السابقين اللذين سقطا بسبب التفرق والانقسام الداخلي. ومع ذلك، يواجه هذا المسعى تحديًا إضافيًّا يتمثل في أن الجيل الإسرائيلي الحالي يبدو أقل تمسكًا بكيان إسرائيل من الجيلين السابقين. وتشير الإحصاءات إلى أن أكثر من مليون إسرائيلي تركوا الكيان منذ 7 أكتوبر، وهو ما يعكس أزمة هوية ووجود حقيقية بين الإسرائيليين.
في المقابل، يُظهر الجيل الفلسطيني الحالي تمسكًا قويًّا بجذوره وأرضه ومقدساته، رافضًا الاستسلام أو التنازل رغم ظروف حرب الإبادة والتجويع والتهجير المستمرة منذ أكثر من 10 أشهر. وهذا الإصرار على المبادئ والحقوق يجعل الفلسطينيين قوة مقاومة راسخة تواجه التحديات التي تسعى إسرائيل لفرضها عليهم.
إن المقارنة بين الجيلين- الإسرائيلي والفلسطيني- تُبرز مفارقة واضحة؛ ففي الوقت الذي يواجه فيه الإسرائيليون أزمة هوية ووجود، ويتساءل كثيرون منهم عن مستقبلهم الشخصي داخل هذه الدولة، يُظهر الفلسطينيون- رغم ظروفهم الصعبة- تمسكاً بأرضهم وتصميماً على العودة والتحرير.
هذا التناقض لا يشير فقط إلى احتمال زوال الكيان الإسرائيلي نتيجة لعنة العقد الثامن، بل يعزز أيضًا من احتمالية انهياره بسبب التفسخ الداخلي والانقسامات التي تمزق المجتمع الإسرائيلي، مقابل إصرار الجيل الفلسطيني على استعادة أرضه وصموده في وجه التحديات.
ختامًا، يبقى السؤال مطروحًا حول مدى قدرة إسرائيل على تجاوز هذا القلق الوجودي، والانتقال إلى مرحلة جديدة تتبنى فيها سياسات أكثر اعتدالًا؛ فاستمرار إسرائيل في نهجها المتشدد سيؤدي بالضرورة إلى تصاعد التوترات الإقليمية، وزيادة احتمالات اندلاع حرب شاملة، كما أن الضغوط الدولية المتزايدة قد تؤدي إلى تآكل الدعم الدولي الذي تعتمد عليه إسرائيل، ما يضع مستقبلها على المحك، ليس بسبب أعدائها الخارجيين فقط، بل بسبب الانقسامات الداخلية التي تهدد بتفكيك المجتمع من الداخل أيضاً.
هذا الواقع يجعل نتنياهو أكثر إصراراً على توسيع نطاق الحرب أملاً في تعزيز اللحمة الداخلية الإسرائيلية، واستدرار الدعم الدولي لحماية الكيان، وصولاً إلى خلق بيئة إقليمية آمنة تضمن إسرائيل من خلالها واقعاً أفضل لعقود أخرى من الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق