يا بحر غزّة.. غزّة
د. أيمن العتوم
ما كان لمائكَ إلا أن يثور، وما كان لأمواجك إلا أن تصير جبالًا، ثم طوفانًا يغرق فيه المحتل كما غرق فرعون، ويبتلع كل خطيئة كما فعل ماء نوح، فأي بحر أنت؟! أما زالت لك تلك الأماسي على شاطئ الذكريات، أما تزال- كما كنت- تهب أهلك الحياة، أم إن الحياة سُرقت، وحل الموت في كل دفقة من دفقاتك، فأُنكرتَ بعد تعريف، وجُهلت بعد علم؟!
يا بحر غزة، أيها الإعصار المنتظر، يا قلب مجاهديه، ويا ضحكة أطفاله، وبسمة نسائه، ويا رمل شاطئه الطيِّع، ويا أناشيد صيّاديه: غنِّنا فإن الليل طويل، وإن قطيع الرقيق أطول، وإنها تشابهت علينا ليالينا حتى ظننا أن الصبح لن يطلع!
يا بحر غزة، ما فعلت بك الأيام؟ وما أخبار صوتك وسرّك، وأين الشذا الذي كان يعبق في أنحائك كلما رحبت بهؤلاء الملثمين؟! أأنت سرهم المكنون؟ أأنت الذي تشرق من مائك البعيد شموسهم، وتظلك في الظلمة بُدُورهم؟! أين تلك الشموس حالية النهار؟ وأين تلك البدور كاشفة الظلام؟! لقد رحلوا.. رحلوا صامتين، ذلك أن الفعل أغناهم عن القول، رحلوا وقد علّموك كيف تبتسم لمّا أذاقوا محتليك الويلات، ومرغوا أنوفهم في التراب.
يا بحر غزة، إن آلامنا صارت أكبر منك، وإن أوجاعنا صارت أعمق منك، وإن حزننا صار أقوى ثورةً منك؟! فهلّا أبدلت الألم أملا، وهلّا غيرت الوجع شفاء، وهلا حولت حزننا فرحا؟! إننا هنا على الشاطئ ننتظر، أيطول الانتظار أيها الحبيب، وأنت تعرف ما حل بنا؟! أليس على العاشق أن يجيب للمعشوق نداءه الذبيح؟! إن أصواتنا بُحّت وهي تنتظر أن تبتلع الغزاة كما فعلتَ بالسابقين، وإن عيوننا رمدت وهي تنظر في عين الشمس علّها ترى في موجك الهادئ صورة الخلاص!
يا بحر غزة، لقد أُطفئت بعدك السُّرُج، وذُرَّ الرماد، وضبحت الخيل وهي تبكي فوارسها الذين ترجلوا عن ظهورها بالشهادة، وأُحرقت أشجارنا، وذَبُلت ورودنا، وماتت شجرة التين، ولم تعد عروق الزيتون تقطر إلا دما! فهل يعود إلى العروق ما جف، وإلى الضرع ما انسكب؟!
يا بحر غزة، أيها الغائب الحاضر، أيها الشاهد المشهود، أيها البعيد القريب، أيها البسمة الحزينة، والعَبرة الصامتة، والحروف المخنوقة، إن ماءك لن يخون أهله، وإن موجك لن يغير طبيعته، وإن موعدنا الصبح، “أليس الصبح بقريب”؟!
يا بحر غزة، إنها حرب بين عقيدتين لا دولتين، وبين منهجين، وبين كفر وإيمان، وبين قرآن ثابت وتوراة محرّفة، وبين الحق والباطل، وإن الحق بين، وإن الباطل كذلك، وإننا لمنصورن بعون الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق