تأملات الفجر في أول يوم بعد عودتي من تركيا
لا نهضة بدون وقوع تطور حقيقي في جوانب ثلاثة:
أولا: الجانب الفكري، فالفكر حين يكون سليما، ومعافي من الآفات، يصنع التغيير المطلوب، ذلك لأن الإنسان يتميز عن غيره بالعقل، والعقل بحاجة إلى تغذية تجعله يزداد فهما، ويخرجه من عالم الجهالة والأمية، وبهذا تهتم الأمم العظيمة في بناء العقول عبر القراءات المنهجية.
ثانيا: الجانب الوجداني والعاطفي، فالإنسان ليس مادة، ولا جزءا من الطبيعة، بل هو مادة وروح، وهو من الطبيعة مادة، ومن خارج الطبيعة روحا، فالسعادة الحقيقية مرتبطة بما هو خارج المادة، ولكن جزء من السعادة كذلك مرتبط بالمادة، ولهذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام بأنه من السعادة في الحياة: الزوج الصالحة، والمركب الهنئ، والجار الصالح، والبيت الواسع، وأغلب من هذه المكونات من المادة، ومن الطبيعة، ويعتبر هذا نوعا من الاعتراف لقوة المادة في الحياة، ولكنها ليست هي المسؤولة الوحيدة للسعادة.
ثالثا: التطور في عالم الأشياء والأشخاص، فلا نهضة بغياب عالم الأشياء، ولا تقدم بتغييب عالم الأشخاص، ولكن المشكلة تكمن في عدم مراعاة الأولويات، وفي عدم الاهتمام بعالم الكيف فقط والنسيان التام في عالم المآلات.
يحقق الإنسان تطوره حين يهتم بهذه العوالم الثلاثة، ولكنه يحتاجه بشكل كبير إلى رؤية متوازنة في الطرح والقراءة، وفي الفهم والعمل معا، هناك من يعطى الأولوية للفهم، ولكنه ينسي العمل، وهناك من يمنح الوقت الكافي للعمل، ولكن بدون الفهم المركز، والفهم المركز يأتي من القراءة المنهجية، ومن التعامل مع الأشخاص الذين يحملون الفكر والفهم العميقين.
الآفات القاتلة للتطور:
هناك آفات ثلاثة تقتل، او تمنع حصول التطور، وهي متعلقة بالإنسان، ولهذا يجب على الإنسان الذي يرغب التطور أن يحيط بها علما:
١ـ القراءة العاطفية للحياة، والاهتمام بالجوانب القلبية فقط، والنظر إلى الحياة من زاوية ملائكية، فهذه النظرة تجعل الإنسان يفقد توازنه، ويحسب أن بعض العلماء عنده ملائكة، فإذا لاحظ منهم خطأ، أو انحرافا، فيرتد، بل ويحاول بعضهم الخروج من الدين، لأن العالم الفلاني، أو الداعية الفلاني ليس كما كان يحسبه، فهذه النظرة العاطفية تعتبر آفة قاتلة للتطور، فلا بد من نظرة متوازنة للحياة، والابتعاد من الرؤى الأحادية، والبعيدة عن فقه الميزان.
٢- الاهتمام بالكم على حساب الكيف، فأغلب الناس يتحدثون عن الكم، وليس عن الكيف، فقد حضرت في تركيا محاضرة للمفكر القطري الدكتور جاسم سلطان، وكانت رائعة جدا، وقريبة من متطلبات العصر، وفيها دروس مهمة للشباب الجدد الذين يهتمون بالتطوير، والدخول في سوق العمل بروح متوازنة، وقد لا تسمع مثيلا لهذه المحاضرة في زمن الطغيان العاطفي، ومع ذلك، وجدت الحضور قليلا، ولكن الذى لاحظت من طرح بعض الأسئلة من الحضور أهمية الحاضرين من حيث الفكر المتميز، وقد أخبرني أخ جاء من بلد آخر أنه حضر محاضرة ليس فيها طرح مميز، ولا قوة فكرية، ولكن الحضور كان بالآلاف، وقد كان هو مسرورا جدا بمثل هذه اللقاءات.
٣- الخروج من الواقع إلى الماضي، أو إلى خارج أسوار الواقع، وقل إن شئت، العيش بالتمني، وليس بالأحلام القابلة للتطبيق، فأغلب الدعاة يتحدثون عن نجاح السلف بلا شروط، وأغلب العلمانيين يتناولون في كتبهم ومحاضراتهم نجاح الغرب بدون مقدمات، ولا متطلبات، ولهذا يؤكدون لنا الجميع في كتبهم وأطروحاتهم بأن التطور يحصل في الهروب من الواقع إلى الماضي، أو الذهاب إلى خارج الواقع الإسلامي.
هذه هي الآفات الثلاثة الموجودة في طريقنا نحو التطور، وهذه الآفات الثلاثة لاحظت في وجودي في تركيا حيت تنقلت في معرض الكتاب العربي في تركيا والذي أقيم في الأسبوعين الماضيين من شهر أغسطس لعام ٢٠2٤م، وتأكد لي بشكل كبير غياب الكتب ذات الوزن الثقيل إلا قليلا، فقد حاولت أن أجد جديدا، أو أحصل غذاء لعقلي المتمرد، فلم أحصل ذلك إلا قليلا بعكس الزمان الماضي، ومع هذا فقد حصلت جديدا في بعض المكتبات، واشتريت لعقلي الجديد، كما حصلت من بعض الأخوة هدايا متميزة من كتب جديدة، وهي نافعة ومتميزة.
في هذه اللحظة المتميزة، أبحث عقلا يكتب الجديد، أو يقرأ القديم بنفس جديد، كما أبحث عقلا لديه منهجية في طرح مشروع جديد للأمة بعد التعب الشديد، والرهق الفكري المستدام معها، فالحديث عن شمولية الإسلام بدون طرح مشروع يشرح كيف نفهم؟ وكيف يمكن لنا تنزيل المشروع في أرض الواقع من جديد سيخلق عقلا إنشائيا لا يملك الأدلة فيما يزعم.
في تركيا عقول كبيرة، ولكن أصحاب هذه العقول يعيشون بعيدا عن الوطن حيث الشعوب تعيش بلا فكر، وأزمتنا فكرية من الدرجة الأولي، ولكن ما هو أعمق من ذلك بأن أصحاب هذه العقول يكتبون، والذين كان من اللازم أن يقرؤوا هذه الكتب يعيشون في عالم آخر، فلا تصل إليهم تلك الإصدارات، ولا هم يبحثون عن هذه الكتب، فهذه أزمة أمة تعيش في لحظات قاسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق