الثلاثاء، 27 أغسطس 2024

لماذا يحتفل الأتراك بمعركة ملاذ كرد؟

 

لماذا يحتفل الأتراك بمعركة ملاذ كرد؟

م. محمد إلهامي,

تمر اليوم ذكرى معركة ملاذ كرد (26 أغسطس 1071م)، وقد أقام لها أردوغان احتفالا مشهودا، وسارعت وسائل الإعلام تغطي ذكرى هذه المعركة.. 
فما أهمية هذه المعركة؟ ولماذا هي من بين آلاف المعارك التي خاضها السلاجقة والعثمانيون التي يجعلها أردوغان علامة تستحق الاحتفاء؟

سأحاول تقديم صورة عن هذا الموضوع بأوجز عبارة ممكنة إن شاء الله

[1]

كانت الإمبراطورية البيزنطية هي أشد القوى السياسية عداء للإسلام وصلابة في مواجهته طوال ثمانية قرون، وكانت عاصمتها القسطنطينية تحتوي على الكنيسة العظمى (أيا صوفيا) التي هي عاصمة المسيحية الأرثوذكسية في كل العالم. وكانت هذه الإمبراطورية هي القوة المسيحية العظمى.

للمسيحية تاريخيا عاصمتان كبريان: القسطنطينية وروما.. في الأولى أيا صوفيا، وفي الثانية: الفاتيكان.. وقد كانت بشرى النبي بفتح المسلمين لهما تساوى البشرى بانتصار الإسلام وسيادته على العالم.

تحققت البشرى الأولى بعد ثمانية قرون على يد السلطان محمد الفاتح، ولا زال المسلمون ينتظرون نصف الوعد بفتح روما.

لكن الذي يهمنا الآن أن روما في وقت النبي كانت ضعيفة ومفككة، وكانت القوة المسيحية التي تصدت للإسلام وعرقلت انتشاره في أوروبا هي الدولة البيزنطية التي أخفق المسلمون فتح عاصمتها القسطنطينية رغم محاولاتهم الكثيرة المضنية منذ زمن الدولة الأموية وحتى الدولة العثمانية.

يمكن اختصار التاريخ الطويل المرير بين دولة الإسلام والدولة البيزنطية في ثلاث معارك فارقة: اليرموك، ملاذ كرد، فتح القسطنطينية.

1معركة اليرموك أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي نهائيا من الشام ثم من مصر.
2معركة ملاذ كرد أدت إلى زوال الوجود الرومي البيزنطي من الأناضول، وصار بإمكان المسلمين أن يشاهدوا كنيسة أيا صوفيا من الطرف الآسيوي.. لذلك تسمى ملاذ كرد بـ "اليرموك الثانية".
3فتح القسطنطينية هي المعركة الأخيرة التي أزالت الإمبراطورية البيزنطية نفسها وفتحت الطريق أمام انتشار الإسلام في شرق أوروبا والذي وصل إلى فيينا.

بين كل معركة وأخرى أربعة قرون: اليرموك (15 هـ) وملاذ كرد (463 هـ) وفتح القسطنطينية (857 هـ)         

أي أن ملاذ كرد هي المحطة الثانية من ثلاث محطات في انتشار الإسلام وسقوط القوة المسيحية العظمى. ولهذا فهي واحدة من أعظم المعارك في تاريخ الإسلام.

[2]

وقعت المعركة في منتصف القرن الخامس الهجري، وكان هذا القرن من قرون الصحوة الإسلامية في المشرق والمغرب.
لقد عاشت الأمة الإسلامية القرنَ الرابع الهجري في حال ضعف قوية، وسيطرة شيعية شاملة، فالبويهيون يسيطرون على فارس والعراق، والقرامطة على الجزيرة العربية والشام، والدولة العبيدية الفاطمية الإسماعيلية على مصر والشمال الإفريقي.. ولم ينجُ من هذا الوضع البائس إلا الأندلس والمغرب الأقصى التي كانت تعيش واحدة من أعظم ازدهارها تحت حكم عبد الرحمن الناصر ثم ابنه المستنصر ثم الحاجب المنصور بن أبي عامر.

في القرن الخامس تغير الحال، دخلت الأندلس في عصر ملوك الطوائف وتضعضعت قوتها، بينما نبغ في الشرق الدولة الغزنوية التي فتحت الهند، ثم السلجوقية التي اكتسحت الدولة الشيعية، وفي المغرب نبغت دولة المرابطين التي منعت الأندلس من السقوط وتضعضعت الدولة العبيدية الفاطمية في مصر وزالت عن الشمال الإفريقي.

ما يهمنا الآن هم السلاجقة:

السلاجقة من الجنس التركي، وقد تكونت دولتهم في المشرق ثم قويت حتى استحالت عاصفة كبيرة حكمت خراسان ثم فارس ثم العراق وصارت على حدود الشام.. وأنقذت الخلافة العباسية من الدولة البويهية الشيعية التي سيطرت عليها مدة 113 عاما، وصار طغرل بك (زعيم الدولة) هو الرجل الأقوى في العالم الإسلامي.

في فترات الضعف السابقة كانت الدولة البيزنطية قد استطاعت احتلال الكثير من الأراضي التي فتحها المسلمون في آسيا الصغرى وإرمينية، وصارت تهاجم الشام، ومدنها الكبرى كحلب وأنطاكية وتنفذ مذابح كثيرة في منبج وفي شرق آسيا الصغرى.

لما توفي طغرل بك آل السلطان من بعده إلى ابن أخيه ألب أرسلان (تعني بالتركية: الأسد الثائر)، فإذا نظرنا إلى الخريطة السياسية التي سيواجهها ألب أرسلان سيكون الوضع كالآتي:

1البيزنطيون صاروا يهاجمون الشام ويستبيحون مدنه.. بينما الدولة العبيدية الفاطمية في مصر قد تضعضت ولا تستطيع الدفاع عن الشام الذي كان تابعا لها، بل على العكس من ذلك يرى الطرفان (العبيديون والبيزنطيون) أن عدوهما القادم هو السلاجقة الذين يحكمون دولة شاسعة تمتد من خراسان حتى الشام ومن حدود أرمينية حتى المحيط الهندي.. وبالفعل كان بين الطرفين تحالف ضد هذا العدو السني القوي القادم.

2مناطق التنازع والاحتكاك بين هاتين القوتين: في مناطق إرمينية والجزيرة الفراتية.. وكليهما كانتا قبل الآن مناطق إسلامية لكن الضعف الإسلامي في القرون الماضية أدخلهما تحت سلطان أو تهديد البيزنطيين والعبيديين.

ولذلك شهدت هذه المناطق حركتان متوازيتان: ألب أرسلان يفتح مناطق في إرمينية وآسيا الصغرى، وإمبراطور الروم البيزنطيين يهاجم المناطق الجنوبية من آسيا الصغرى ويصل إلى الشام.

كان اللقاء حتميا..

[3]

جمع إمبراطور الروم حشدا رهيبا يقدر بمائتي ألف مقاتل وخرج به إلى نواحي أرمينية وفي خطته أن يكمل المسير إلى العراق ثم إلى فارس حتى يدمر عاصمة السلاجقة (الري) ومن شديد ثقته بقوته أعطى كل أمير أرضه التي سيتولى عليها في طول هذه البلاد.

وكان ألب أرسلان في الطريق بين ديار بكر وحلب فبلغه هذا الحشد الرهيب لإمبراطور الروم.. ولأسباب تختلف المصادر فيها كثيرا لم يكن معه من الجيش في ذلك الوقت إلا خمسة عشر ألفا من الجنود، لكنهم كانوا من نخبته المتميزة.

كان الجيش الرومي يتكون من سائر العناصر العرقية التي تحكمها الإمبراطورية البيزنطية: الروس والكرج واليونان والأرمن فضلا عن الروم فضلا عن أتراك من مجموعات لم تعتنق الإسلام.

لم يكن أمام ألب أرسلان في هذا الظرف العصيب الذي لم يستطع فيه حشد الجنود إلا أن يطلب الهدنة.. لكنه لو طلبها من موقع ضعف فلن يُستجاب له بحال، تلك هي قاعدة السياسة والقوة التي يفهمها الجميع.. فلذلك دبَّر أمره لكي يوقع بمقدمة الجيش البيزنطي التي تسبقه بمسافة -وكانت من الروس- ثم يرسل في طلب الهدنة.

وبالفعل، استطاع خوض معركة قوية سحق فيها المقدمة الروسية التي تتكون من عشرين ألف جندي، فحسَّن وضعه التفاوضي، وأرسل سفيره يطلب الهدنة.. لكن الإمبراطور ذي المائتي ألف لم يبال أن هلك له عشرون ألفا، فقال ساخرا: سأرد على هذا العرض حين أصل الري!

هنا لم يعد أمام ألب أرسلان إلا الانسحاب ومحاولة الإعداد.. أو الاندفاع في هذه المغامرة المجنونة والتي فيها احتمال هلاك نخبته المكونة من خمسة عشر ألف جندي مرة واحدة!

كان الانسحاب يعني خسارة نتائج الأعوام الماضية من الفتوح في أرمينية وشمال الشام، ويعني انهيار الروح المعنوية لدى الجنود المسلمين، كما يعني مئات آلاف القتلى والجرحى والسبايا في المدن المسلمة.. ويعني تعاظم الروح المعنوية لدى البيزنطيين وازدياد القوى العسكرية بمن سينضم إليهم من بلاد إرمينية والكرج وأذربيجان ونصارى شمال الشام.

قرر ألب أرسلان أن يخوض المعركة..

وشجعه على ذلك الفقيه الذي كان في الجيش نصر بن عبد الملك البخاري، قائلا: إنك تقاتل عن دين قد وعد الله بنصره.

[4]

كان ألب أرسلان في حاجة إلى أمرين معا: أن يجعل جيشه في أقصى طاقته المعنوية والقتالية، وأن يضع خطة عسكرية تكسر التفوق العددي والعُدَدي الهائل بينه وبين الروم (15 ألفا مقابل 200 ألف).

فعلى مستوى الطاقة المعنوية أعلن أنه قد تخلى عن منصبه كسلطان، وقال: ليس هاهنا اليوم سلطان يأمر ولا جُنْد يُؤمر، فمن أراد البقاء للقتال بقي ومن أراد أن يرجع رجع.. وخلع ثوب السلطنة ولبس الثياب البيض (أي: الكفن) وقال: إن قتلت فمن حواصل النسور الغبر إلى حواصل الطير الخضر رمسي، وإن انتصرت فإني أُمْسِي ويومي خير من أمسي.

وعقد يده بذنب خيله (علامة على الثبات وعدم الفرار)، ونزل ومرغ وجهه في التراب وتضرع إلى الله.. وكانت وصية فقيهه أن يؤجل المعركة إلى ساعة الزوال من يوم الجمعة حتى تدركه دعوات المسلمين على المنابر.

وكان هو قبل ذلك قد أرسل إلى الخليفة في بغداد يخبره، فأمر الخليفة بعض الفقهاء بوضع دعاء موحد، وزعه على المساجد، وفيه الدعاء لألب أرسلان وجيشه.

وكان من البشريات العاجلة أنهم اكتشفوا الجيش البيزنطي وقد حفر خندقا حول معسكره، فعلموا أن هذا دليل على خوفهم وخشيتهم وأنهم لا يتمتعون بما أظهره الإمبراطور من ثقة كاملة في نصره.

وعلى مستوى الخطة العسكرية فإن مجموع ما وصلنا من الروايات التاريخية يؤدي بنا إلى القول بأنها كانت كالآتي:

كان الهمّ الأول والأكبر لجيش ألب أرسلان منع التطويق، ومن ثم فقد وضع قطعة من جيشه في كمين خلف طريق الجيش البيزنطي ليثخن فيه من الخلف ويشاغله ويعرقله.

عند لحظة انتشاب القتال سيتحول الجيش كله إلى ما يشبه السهم، ليتحرك حركة سريعة وخاطفة إلى قلب الجيش مباشرة حيث خيمة الإمبراطور نفسه، وبهذا تنقسم مهمة الجيش إلى من يصدون ويشاغلون ويفتحون الطريق، وإلى نخبة أخرى تخترق هذه الصفوف بأقصى ما تملك من سرعة لتصل إلى خيمة الإمبراطور فتقتله وتشيع خبره فينهار الجيش الكبير.

وهو ما كان فعلا.. لم تلبث المعركة كثيرا حتى كان بعض نخبة السلطان ألب أرسلان قد اخترق خيمة الإمبراطور فنزع عن رأسه التاج، ووضعه فوق رمح ونادى بأن الإمبراطور قتل، فيما كان جندي آخر قد جرده من ملابسه الإمبراطورية وسحبه أسيرا.. وما إن انتبه الجيش إلى التاج المرفوع فوق رمح حتى انهار وتفتت وانسحب لا يلوي على شيء.

يضطرب كثير من المؤرخين في محاولة وصف أسباب الهزيمة مع وجود هذا الفارق العددي الكبير، ولذلك تتنوع اجتهاداتهم في تحليل ما حدث.

البعض يرفع من عدد جيش المسلمين حتى يوصله إلى خمسين ألفا أو مائة ألف، ويخفض من جيش الروم حتى يوصله إلى مائة ألف.. والبعض يعزو الهزيمة إلى اختلاف أجناس الجيش البيزنطي وعدم اتساقه وانسجامه.. والبعض يذكر خيانة وقعت من بعض القادة غير الروم للإمبراطور الرومي مما أدى لهذه الهزيمة.. والبعض يذكر أن المجموعات التركية التي كانت في جيش الروم تخلت عنه وانحازت لبني قومها الترك وإن لم تكن على دينهم.. والبعض يقول انقلب اتجاه الريح ليصير في وجه الجيش البيزنطي مما ساعد حركة الجيش الإسلامي.

لكن القدر المشترك المتفق عليه بين الروايات، ولا سيما الروايات الإسلامية، هو هذا الفارق الهائل في العدد والعدة، وفي أن المعركة لم تطل وكانت سريعة، وفي أمور تضرع السلطان وحماسة جنده وترتيبه أن تبدأ المعركة لحظة ارتقاء الخطباء المنابر.

[5]

كانت هذه أعظم نتيجة يحققها جيش إسلامي على جيش بيزنطي، فلم يسبق من قبل أن استطاع الجيش المسلم أسر الإمبراطور، وغاية ما حصل قبل ذلك أن الإمبراطور أصيب كما في معركة ذات الصواري -زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه- أو كان جيشه ينتصر في أوقات الضعف الإسلامية في منطقة شرق آسيا الصغرى وشمال الشام.

لهذا لم تكن الصدمة التي نزلت بالروم صدمة عسكرية فقط أدت إلى انهيار الجيش، بل كانت صدمة سياسية أيضا، إذ ترتب عليها صراع في بلاط الحكم حول الإمبراطور القادم.

كانت حالة أرمانوس -الإمبراطور الأسير- مريعة، وقد ظهر منه هذا إلى حد أن السلطان ألب أرسلان قرر أن يُطلقه.. فالذي تلقى صدمة الهزيمة أنفع للمسلمين وهو في الحكم من إمبراطور جديد قد يطلب الثأر.. فالقاعدة أن القيادات المنهزمة المنهارة أفضل لعدوها من القيادات الجديدة الناشئة.

رأى ألب أرسلان بفراسته أن أرمانوس هذا لن يفكر مرة أخرى في حرب المسلمين، فقرر إطلاقه، مقابل جزية سنوية (مليون ونصف المليون دينار) وإطلاق كل أسرى المسلمين لدى الروم، وهدنة خمسين سنة.. وقد وافق على هذا كله، ثم نظر ناحية بغداد -حيث الخليفة- وانحنى كعلامة على الخضوع والتعظيم.

ولما عاد إلى عاصمته كان منبوذا من قومه، ولم يستطع أن يعود إلى ملكه، بل قُبِض عليه وسَمَلوا عينيه لكي لا يصلح للحكم ولكي ينتهي أمله.

فكانت ميتته بيد قومه بعد هزيمة ساحقة لم تلق الإمبراطورية البيزنطية مثلها من المسلمين من قبل.

لكن النتيجة الأهم التي جعلت لمعركة ملاذ كرد تأثيرها العظيم في التاريخ هو أن قوة الإمبراطورية البيزنطية انتهت تماما من كل أملاكها في الأناضول وبلاد أرمينية.. لقد صارت هذه الأنحاء ضمن نفوذ المسلمين، وتكاثر فيها المسلمون، ودخل كثير من أهاليها في الإسلام.. ولم يخرج الإسلام من تلك المناطق أبدا فيما بعد إلا قبل مائة سنة مع الحرب العالمية الأولى التي انتزعت أرمينية وجورجيا وأذربيجان.

فكانت هذه المعركة هي بداية سكنى الأتراك منطقة الأناضول.. وهي المنطقة التي سيظلون بها أربعة قرون أخرى، حتى إذا انتهت الدولة السلجوقية من هناك كانت الدولة العثمانية قد ولدت، وهي التي ستستكمل مهمة الفتح حتى تفتح القسطنطينية ثم شرق أوروبا حتى فيينا.

لهذا يحتفل الأتراك بهذه المعركة باعتبارها المعركة الفاصلة التي أسكنتهم هذه الأرض وجعلتها قلعة الإسلام قرونا ثم قلعة الخلافة قرونا.

[6]

استغربت حين سمعت كلمة دولت بهجلي -رئيس الحزب القومي التركي- كأنها كانت كلمة رئيس حزب إسلامي (إلا قليلا).. وأشد ما لفت نظري في كلمته أنه قال: إن الروم الذين هزمناهم لم ينتهوا بعد، بل إنهم لا زالوا أحياء ولا زالوا يقاتلوننا ولا يزالون يبثون الفتن بين المسلمين.

نعم.. إن الغرب لا يزال يتخوف من الأتراك باعتبار أنهم كثيرا ما قلبوا ميزان القوة لصالح المسلمين، ومعركة ملاذ كرد هي واحدة من أهم هذه اللحظات الكبرى الحاسمة!

لقد اتضح بعد هذه الهزيمة أن الدولة البيزنطية بدأت عصر الغروب، ورغم أنها استمرت أربعة قرون بعد هذه اللحظة إلا أن ملاذ كرد قد اضطربت لها الكنائس الغربية التي بدأت تشعر بالارتياع من الزحف الإسلامي إلى أوروبا. لا سيما وأنه لم تمض خمس عشرة سنة على هذه الهزيمة إلا وكان المرابطون يحققون نصرا حاسما آخر في الزلاقة يطيلون به عمر الأندلس أربعة قرون أخرى.

إثر هاتين الهزيمتين استيقظت المسيحية الأوروبية وقررت أن تدافع عن المسيحية بنفسها بعد انهيار ثقتها بالحصن البيزنطي الذي يحمي المسيحية من الشرق، وهي الصحوة التي ولدت فيما بعد أشهر حدث في التاريخ: الحروب الصليبية.

من المؤسف أن دولة السلاجقة (وإن بقيت في الأناضول أربعة قرون) إلا أنها دخلت في طور ضعف بعد وفاة السلطان ألب أرسلان ثم ابنه ملكشاه.. واستطاعت الجيوش الصليبية أن تخترق الأناضول وتهزم السلاجقة في منطقة الروم لتستقر في الشام قرنين من الزمان حتى يكون انكسارهم على يد صلاح الدين بعد نحو القرن ثم نهايتهم تماما على يد المماليك بعد نحو قرن آخر.. وتلك الحروب الصليبية كانت لها آثار واسعة ليس هذا مجال بيانها.

لكن المهم في سياقنا هذا الآن، أن الكتابات الغربية تنظر للأتراك المعاصرين وترى فيهم السلاجقة كما ترى فيهم العثمانيين، وتتخوف من نهضة معاصرة تجدد ملاذ كرد وفتح القسطنطينية مرة أخرى. والتراث الغربي تجاه العثمانيين حافل بما يجعل ذكراهم مرعبة ومثيرة للفزع.

هذا شعور الغرب نحو المسلمين جميعا، لكن الخطر الذي يرونه الآن أقرب إليهم هو خطر الأتراك.. وهو الأمر الذي يعرفه أردوغان ويستدعيه ويجدد ذكراه ويثير حماسة الأتراك به، وهكذا تفعل الأمم الناهضة: تحيي تاريخها ولحظات مجدها.

لكن أسوأ ما يحدث هنا أن هذه الظروف تجعل من نصر ملاذ كرد يبدو وكأنه نصر تركي، بينما الحقيقة أنه نصر إسلامي لا شك في ذلك.. فما كان في الزمن القديم معنى القومية العرقية العنصرية التي زرعها فينا الاحتلال وعملاؤه من بعده..

ولذلك، فبقدر ما يحتفل المسلمون في كل مكان بهذا النصر بقدر ما يتحرر النصر من هذه الصبغة القومية الضيقة ليكون نصرا من انتصارات المسلمين ويوما من أيام الله.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق