اليوم التالي لفشل الصفقة
إذا أردنا أن نلخّص الأدوار في فيلم «الهدنة» الذي بدأ عرضه في الدوحة منتصف شهر أغسطس/آب، فقد نقول إن الرئيسية فيها تتقاسمها ثلاثة أطراف. الأول يملك الكثير لكنه لا يريد إحقاق الحق. والثاني يعول على الأول ويستقوي به، ولم يجد ما يضطره لإحقاق الحق. أما الثالث فإنه يقف وحيدًا ولا يزال يتلمس خيارات انتزاع الحق.
للدقة، فإن الفيلم طويل ومتعدد الحلقات، التي تتابعت فيها أشكال وأدوار الإثارة منذ تأسيس إسرائيل في 1948. حينذاك، عقدت الهدن تباعًا مع الدول العربية المجاورة لفلسطين خلال الأشهر التسعة التي أعقبت وقف القتال. ومن مصادفات الأقدار أن ملف مباحثات الهدنة الأخيرة نوقش في الشهر العاشر لحرب غزة، كأنما أراد ربك أن تُعقد الهدنة الأولى في أعقاب ميلاد الدولة العبرية، أما الهدنة الأخيرة فقد تمت الدعوة لها في خضم حملة طوفان الأقصى التي أحيت القضية الفلسطينية واعتُبرت تهديدًا وجوديًا لإسرائيل.
في اجتماع الدوحة الذي عقد في ظل استمرار حملة الإبادة، تبيّن أن الفجوة بين الجانبين أوسع وأعمق مما صورته التعبئة الإعلامية التي اعتبرته «اجتماع الفرصة الأخيرة».
وذلك راجع إلى عاملين: أولهما إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لاءاته التي رفض فيها المطالب الأساسية لحركة حماس: (وقف القتال الدائم – الانسحاب الكامل من غزة – عودة الغزيين للقطاع بلا شروط).
أما الثاني فهو أن الأميركيين قدموا ورقة جديدة قالت عنها حماس إنها تتماهى مع الموقف الإسرائيلي.
وكانت تلك نقلة مهمة تشير إلى أن اللعب صار على المكشوف، بحيث صار الحوار يجري بين الإسرائيليين والأميركيين فقط، ولم يكن الفلسطينيون طرفًا فيه.
ولوحظ أن الاستعلاء الإسرائيلي بدا أكثر وضوحًا بعد عودة نتنياهو من واشنطن ولقائه هناك بالرئيس الأميركي جو بايدن، واجتماعه مع المرشح الرئاسي دونالد ترامب. وهو ما وفّر له جرعة من الجرأة أو الصفاقة جعلته يجهر بلاءاته.
الشاهد أن التصعيد والاستكبار اللذين عبّر عنهما نتنياهو بعد عودته من الولايات المتحدة في أواخر يوليو/تموز الماضي، لا يُستبعد أن يكونا من آثار الانتشاء والوعود التي تلقاها الرجل بعد لقائه مع ترامب في حال فوزه. ويبدو أن ذلك التشجيع كانت له أصداؤه في أوساطه المقربة.
يؤيد ذلك أن مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد أردان، وهو من قادة حزب الليكود، شن هجومًا قاسيًا على المنظمة الدولية، حيث طالب بإغلاق مقرها في نيويورك ومحوه من على وجه الأرض، حسب ما نقلته عنه صحيفة «معاريف» الإسرائيلية.
ما تبلور حتى الآن يمكن اختزاله في العناوين التالية:
حين أعلن نتنياهو لاءاته، وأراد حصر التفاهمات حول قضايا فرعية وأقل أهمية، فالحديث مرفوض حول إدامة وقف القتال أو انسحاب قوات الاحتلال أو حرية انتقال الغزيين في القطاع، مثلًا، بحيث يبقى الحوار مفتوحًا حول أعداد وأسماء الأسرى الأحياء منهم والأموات، وإعادة انتشار القوات الإسرائيلية، وتوفير بعض المواد الإغاثية، وغير ذلك من العناوين التي يمكن المناقشة حولها لأشهر أو سنوات.
أما الطرف الأميركي، الراعي الرسمي لإسرائيل، فشاغله الأوّل هو الانتخابات الرئاسية وحشد الأصوات لنائبته المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس.
أما شاغله الثاني فهو تأييد إسرائيل والتمادي في الدفاع عنها سياسيًا وعسكريًا مع السعي لتجنب توريط الولايات المتحدة في أي حرب إقليمية قد تتفجر فجأة.
العنوان الأخير المهم يبدو عاديًا وبريئًا في مظهره، لكني أخشى أن يخفي في ثناياه شيئًا آخر، وهو الانتقال بالمباحثات إلى القاهرة بدعوى استكمال مناقشة الورقة الأميركية في رحابها. وهو أمر يثير عدة تساؤلات؛ لأنه إذا كانت حماس قد رفضت الورقة الأميركية (المعدلة) واعتبرتها متماهية مع الموقف الإسرائيلي، فعلى أي شيء يجري التفاوض في العاصمة المصرية؟
وإذا كان نتنياهو قد حدد لاءاته في حين قبلت إسرائيل تلك الورقة، فهل ستدور مناقشات القاهرة بين هذين الطرفين فقط وتغيب عنها حماس؟ وهل سيصبح الهدف في هذه الحالة هو التركيز في اجتماعات القاهرة على حل عقدتين تمثلان أهمية خاصة لدى إسرائيل والولايات المتحدة في الوقت الراهن، هما: ملف محور فيلادلفيا الذي تعترض مصر على الوجود الإسرائيلي فيه، ويتمسك نتنياهو بذلك الوجود، رغم تعارضه مع اتفاقية كامب ديفيد، والهدف هو استرضاء مصر لا لشيء إلا لكي تنضم بثقلها إلى الضغوط على حماس.
وإذا ذهبنا في التحليل إلى أبعد، فإننا لا نستطيع تجاهل الشكوك التي تكمن وراء رسالة الانتقال للعاصمة المصرية وعما إذا كان المراد بها استثمار موقع ودور القاهرة، الحاضنة لجامعة الدول العربية، في تمرير المشروع الأميركي، مما قد يعني أن ثمة موقفًا عربيًا يؤيد المشروع يُضاف إلى الضغوط الموجهة على حماس، التي أعلن الأميركيون رسميًا أنها الطرف الذي يعطل الصفقة. وفي هذه الحالة تُقدَّم حماس كطرف معزول يغرد خارج السرب.
تبدو هذه الأسئلة مشروعة ومثيرة للقلق، خصوصًا أن نتنياهو تحدث في خطبته أمام الكونغرس الأميركي في 24 يوليو/تموزعن تشكل معسكر سياسي في الوقت الراهن يضم الولايات المتحدة وإسرائيل و«الأصدقاء العرب»، معتبرًا أن ذلك المعسكر يمثل الصراع بين الهمجية والحضارة.
إذا ما تابعنا الضغوط السياسية الأميركية التي تبذل لتسويق مشروعها في الساحة الدولية، فسنلاحظ أنها ترقى إلى محاصرة حماس لكي تقف وحيدة في ساحة المواجهة السياسية، كما كانت وحيدة في خوض المواجهة العسكرية. يحدث ذلك في الوقت الذي يجري إيهامنا من قبل الأميركيين ومنابر إعلام الموالاة والتطبيع باستمرار الحوارات «البناءة»، وتضييق الفجوات بين الطرفين، في حين أن ما يحدث على الأرض على النقيض من ذلك تمامًا. فحملة الإبادة والتهجير مستمرة، وكذلك خطوات إعادة احتلال غزة، وتوحش المستوطنين ونهبهم المستمر للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.
في الوقت الذي يُعاد تخطيط قطاع غزة، والإعداد لإلحاق شمالها بإسرائيل ليلاقي مصير الجولان المحتل منذ 1967، فثمّة همس مسموع يذكرنا بطمع إسرائيل في الغاز المدفون في أعماق بحر غزة.
الخلاصة أن جهود محو فلسطين واقتلاع أهلها تداعب أحلام الإسرائيليين وقد أظهرها نتنياهو أمام مجلس الأمن في سبتمبر/أيلول 2023 حين عرض على المجلس صورة خريطة الشرق الأوسط محا منها فلسطين تمامًا.
ذلك قليل من كثير تحفل به أجندة الغلاة وأحلامهم التي يريدون تحقيقها، ومنها ما يقلقنا حقًا، لكنه لا يُخيفنا. لأن الإرادة التي تبدت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول قادرة على أن ترد كيدهم إلى نحورهم بعون الله. وهذه الإرادة التي تقارع جيش إسرائيل وتقاوم بحزم في تفاهمات الصفقة بقدر صمودها في ساحة القتال، يتجدد في ثباتها على مواقفها المبدئية ليس فقط؛ لأنهم يمثلون جيل أطفال حجارة انتفاضة 1987، ولكنهم أيضًا تعلموا جيدًا درس أوسلو وفخاخه التي لا يزال الفلسطينيون يعانون آثارها منذ 1993.
هؤلاء وأولئك ليسوا حماس فقط، ولكنهم أجيال الشعب الفلسطيني صاحب الأرض الذين ولدوا من رحم الإبادة والتهجير. وللتذكير فقط، فإن اتفاقية أوسلو منحت اعترافًا بحق إسرائيل في الوجود على أرض فلسطين، وأعطت الفلسطينيين سلطة وهمية على الأرض أصبح التنسيق الأمني رمزًا لها، كما وعدتهم بحكم ذاتي يمهد لإقامة الدولة بعد 5 سنوات في حين تبقيها في كنف إسرائيل. ولكن ذلك كله نُسف ولم يبقَ منه شيء، الأمر الذي انتهى بالخريطة التي عرضها نتنياهو على مجلس الأمن منذ عام، مستعرضًا ما تصور أنه محو فلسطين من الوجود.
فشل الصفقة الذي لا نتمناه يعني استمرار القتال إلى أجل لا يعلمه إلا الله. وفي هذه الحالة لا يبقى أمام أولئك الفلسطينيين بديل مشروع يدافعون من خلاله عن حلمهم المؤجل في الاستقلال، خصوصًا بعد ذلك الثمن الباهظ الذي دُفع منذ طوفان الأقصى، الأمر الذي يفتح الأبواب واسعة لمختلف أشكال العنف الذي بدأت إرهاصاته في مواجهة جرائم المستوطنين في الضفة، ولاحت مقدماته في نموذج العمليات الاستشهادية التي شهدتها تل أبيب مؤخرًا، وقد تتسع دائرة الاستهداف لتشمل العناصر الموالية لإسرائيل وداعميها ومصالحها في الخارج.
لا يُنسى في هذا الصدد أن قيادة حماس الراهنة، ممثلة في يحيى السنوار، رئيس مكتبها السياسي الذي خلف الشهيد إسماعيل هنية، أمضت 22 عامًا في السجون الإسرائيلية تدرس وتخطط ليس فقط لاستعادة الحلم الفلسطيني، ولكن أيضًا للاستشهاد دونه. وليس ذلك موقفًا لفرد أعدته الأقدار لهذا الدور، بل هو رمز لجيل يراوده الحلم ذاته، ولا يزال يحتفظ في خزائنه بمفاتيح بيوته التي هُجِّر منها الأجداد منذ 76 عامًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق