الحداثة والأصولية.. مَنْ سيأكل مَنْ؟
في عبارة موجزة أثار "بايدن" المخاوف التي يمكن أن تهدد الاستقرار الذي يتميز به الغرب عموما وأمريكا خصوصا: "إنّا نخشى ألا يتم تسليم السلطة بشكل سلميّ في الانتخابات القادمة"، فهل صدرت منه هذه الجملة في سياق الدعاية الانتخابية؟ أمّ إنّ التصرف الطائش الذي قام به أتباع "ترامب" على إثر الانتخابات الماضية يُخشى أن يتكرر فلا يلقى من حزم المؤسسات الحارسة للديمقراطية ما لقيه في المرة الأولى؟ أم إنّه يعبر عن حالة يُعاني منها المجتمع الأمريكيّ منذ نشأته، تعلو وتخبو ولكنّها لا تخمد، وهي النزاع بين الاتجاه العلمانيّ والاتجاه الديني البيوريتانيّ؟ كلُّ ذلك وارد، لكنّ التخوف من الانقسام الثقافيّ حاضر في حسّ الكبار، وهو الذي صوره مُستطلِعٌ شهيرٌ للرأي العام، وهو "وليام ماك إنترف"، في تصريح لواشنطن بوست بقوله: "عندنا قوتان ضخمتان تصطدمان، واحدة ريفية مسيحية محافظة دينيّا، والأخرى متسامحة اجتماعيّا؛ توافق على تخيير المرأة بين الحمل وعدمه، علمانية تعيش في نيو إنجلاند وعلى شاطئ المحيط الهادئ"، وهو ما أكده "باتريك بوكنان" في كتابه "موت الغرب".
الاجتياح الحداثيّ
جاءت نشأة الحداثة كردّةِ فعل عنيفة لهيمنة الكنيسة بفكرها المتصلّب على الحياة بكافّة نواحيها، وانطلقت تقرر الأسس الفكرية للعالم الحديث: سيادة الإنسان على الطبيعة، وتجاوز الإله، وإدارة الظهر للميتافيزيقا، والتطور كَمَسارٍ حتميّ، ونسبية الحقيقة، وغلّ يد الدين عن التدخل في الحياة بكافّة مجالاتها، يقول ألان تورين: فالحداثة تستبعد أيّ غائيّة.. تُحِلّ فكرة "العلم" محلَّ فكرة "الله"، ويواصل: "يقول أنصار الحداثة: إنّه لا المجتمع ولا التاريخ ولا الحياة الفردية تخضع لكائن أسمى يجب الإذعان له". ومضى الفكر الحداثيّ يطور نفسه ويزداد مع كل طور بعدا عن الله وانغماسا في المادية، فهذا جون ستيوارت ملْ يقرر بصراحة: "ترى النظرية التي تعتنق المنفعة، أو مبدأ "أعظم قدر من السعادة كأساس للأخلاق"، أنّ الأفعال تكون صوابا بقدر ما تساعد على زيادة السعادة، وخطأ بقدر ما تساعد على إنتاج ما هو ضد السعادة، ونحن نقصد بالسعادة اللذة وغياب الألم"!
خروج المارد من القمقم
مع أول هجرة للإنجليز إلى "أمريكا الشمالية" كان للإنجيليّين البيوريتانيين حلمٌ سعوا إلى تحقيقه؛ معتقدين أنّ هذه الأرض الجديدة هي أرض الميعاد، وعندما قامت الثورة الأمريكية ضدّ التاج البريطانيّ استمدت من فكر عصر التنوير وقودها، وحاول المتطرفون تَدْيين الدستور، وتفاوضوا مع الآباء المؤسسين ولا سيما "جفرسون"، لكنّهم لم يفلحوا، وظل هذا التيار يستعر في جوف أمريكا، فلا يكاد يخبو حتى يعود للاشتعال، وفي ثمانينات القرن المنصرم كانت صحوة المارد وخروجه من القمم، ليلفظ على السطح أمثال: جيمي سواغرت وجيري فلول وهول ليندسي.
ومن يومها والتعانق التام قائمٌ بين المشروع الصهيونيّ والمشروع الإنجيليّ الأصوليّ المتطرف، ليس فقط على المستوى الديني الدعوي وإنّما على المستوى السياسي كذلك، يقول كتاب "البعد الدينيّ في السياسة الأمريكية": "إنّ القدس عندهم هي الدمينة التي سيحكم المسيح العالم منها عند قدومه الثاني، وبدلا من العمل على تنصير الإسرائيليين فقد أجلت الحركة هذا الموضوع إلى حين اكتمال النبوءات التوراتية بقيام مملكة الألف عام السعيد.. وقد نظرت الحركة من الناحية اللاهوتية إلى احتلال القدس عام 1967م على أنه بمثابة الخطوة قبل الأخيرة لنهاية العالم".
وتقول "غريس هالسل" في "النبوءة والسياسة": "سألت البروفيسور غوردون وَالْتي عالم الاجتماع: هل من الأخلاق إعطاءُ المال لإسرائيل لإبادة الفلسطينيين؛ فأجاب: إنّ الإنجيليين الأصوليين الذين يجمعون الأموال لتدمير المسجد يمارسون نفس العقيدة التي مارسها أجدادهم من قبل.. وكما أنّ بعض المستوطنين المسيحيين وجدوا أنه من الصواب قتل الهنود الحمر؛ فإنّ بعض المسيحيين يجدون الآن أنّه من الصواب تقديم المال إلى الصهاينة الذين يقتلون الفلسطينيين"، فهذا اتجاه فكريّ حركيّ ضخم في تكوينه ثقيل في تأثيره على توجهات السياسيين من كلا الحزبين الكبيرين.
حداثة وأصولية!.. كيف يجتمعان؟!
وإذن فإنّنا أمام معضلة لا مخرج منها إلا بالصمت والانتظار؛ فالدولة المدنية في الغرب عموما وفي أمريكا خصوصا دولة غريبة الأطوار عجيبة الأحوال، فبينما هي علمانية تفصل الدين عن السياسة وعن الحياة كلها، وحداثية لا تكترث بالميتافيزيقا ولا بما يتوارى خلفها من الغيب، إذا بالخلق يكتشفون أنّها إلى جانب ذلك تحمل في زاوية من بطنها الواسعةِ العميقةِ الكثيرةِ الأدغالِ لاهوتا أسود كالغول القادم من القرون الخوالي، ومع ذلك فهي قادرة على احتواء ذلك كله، بل واستثماره في التوسع والإمبريالية، فهي المبشرة بالديمقراطية وهي أيضا المنذرة بهرمجدون!
المهم أنّها الدولة التي تحمل رسالة للعالمين أجمعين، ولا يهم أن يكون الربّ قد أخرجها لتخرج الناس من ظلمات الثيوقراطية إلى أنوار الديمقراطية، أو لتدخلهم في صفّها عنوة، فمن لم يكن معها كان ضدّها، المهم هو التعالي الرسالي. يقول: "توماس باترسون": "واعتقد كثير من الرسميين في حكومة الولايات المتحدة أنّ رسالتهم ليست قاصرة على الحفاظ على الحضارة، بل وأيضا العمل على نشرها إلى أبعد أركان المعمورة، واستلزم هذا أن يتوفر لدى جميع الأمريكيين تقييم وتقدير عميقان للرأي القائل: إنّ مجتمعهم ليس فقط مجتمعا استثنائيّا فريدا، بل إنّ أبناء هذا المجتمع أيضا هم شعب مختار، اختاره الربّ لمهمة إنجاز رسالته سبحانه وتعالى لنشر الحضارة"!
مَنْ سيأكل مَنْ؟
لقد ظهر واتضح الآن أنّ سؤال: من سيأكل من؟ لم يعد له أهميّة الآن؟ على الأقلّ بالنسبة لنا نحن المسلمين، الأهمية إنّما تكون لأمرين، الأول: يتمثل في الفرصة التي يوجدها احتدام الصراع، وفي الهامش الكبير الذي يوفره تدافع القوى؛ كيف يمكننا استثمار ذلك كلّه لنصرة قضايانا، وعلى رأسها قضية فلسطين، والثاني: يتمثل في استعادة الثقة بما تتمتع به هذه الأمة -رغم كل آلامها وآثامها- من سلامة الحقيقة الكبرى واستقامتها، وفي استمداد الأمل في تغيير كبير ووشيك؛ (واللهُ غالبٌ على أمرِه).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق