اعتقال مالك تليغرام والاحتكار الأمريكي لمواقع التواصل
في تهديد صريح لحرية الرأي والتعبير اعتقلت السلطات الفرنسية الملياردير الروسي بافيل دوروف الرئيس التنفيذي لشركة تليغرام فور وصوله إلى مطار بورجيه بالقرب من العاصمة باريس، لرفضه الاستجابة للضغوط وتسليم بيانات أصحاب الحسابات على التطبيق الذي يستخدمه الملايين حول العالم، وعدم موافقته على اختراق التطبيق ببرمجيات تجسسية تمكن الدوائر السيبرانية الغربية من الرقابة.
رغم أن الرئيس الفرنسي ماكرون صرح بأن القبض على دوروف ليس له دوافع سياسية فمن الواضح أن فرنسا قامت بالاحتجاز لصالح السلطات الأمريكية، التي تشعر بانزعاج كبير من شعبية المنصة التي أصبحت الأكثر تأثيرا خاصة بعد عملية طوفان الأقصى ومتابعة حرب غزة، بسبب سقف الحرية المرتفع وسياسة الحياد التي يلتزم بها صاحب التطبيق الشهير.
كشف دوروف مع الصحفي الأمريكي تاكر كارلسون في حوار مؤخرا عن الضغوط الأمريكية التي يتعرض لها، ومطاردته المستمرة، وأشار إلى الأسئلة المباشرة من ضباط مكتب التحقيقات الفيدرالي والأجهزة الأمنية التي توجه إليه عندما يزور الولايات المتحدة، وتحدث عن محاولة تجنيد أحد المهندسين بشركته لدمج برمجيات تجسس أمريكية ضمن بنية التطبيق ليسهل الحصول على البيانات والمحادثات.
تسبب القبض على مالك تليغرام في غضب واسع على شبكات التواصل وفي العالم الرقمي، فقد كان السلوك الفظ للحكومة الفرنسية صادما، إذ يفتقد التحضر والاحترام مع الشاب العبقري الذي قدم تجربة نجاح مثيرة للإعجاب، فهو لم يتجاوز الأربعين من عمره وتحدى الكثير من المعوقات للحفاظ على استقلاله ومواصلة إنجازاته.
قصة نجاح وسط ظروف صعبة
أطلق الشاب الروسي بافيل دوروف في عام 2006 الموقع المشابه للفيسبوك اسمه فكونتاكتي Vkontakte الذي عرف لاحقا باسم VK وهو الأكثر شهرة في روسيا، ثم أطلق في 2013 تطبيق تليغرام الذي تسبب في الحرب عليه الآن، وبدأ في دخول عالم العملات الرقمية المشفرة، فقرر إطلاق عملة منافسة للبيتكوين، مما أثار غضب الأمريكيين الذين يريدون احتكار كل شيء ويرفضون أن ينافسهم أحد فقرروا مطاردته.
الذي جرأهم على التعامل بالأسلوب الخشن مع دوروف أنه خرج من روسيا هاربا، بعد اشتعال الحرب مع أوكرانيا، ولا توجد دولة تحميه، وذلك بعد رفض التعاون وإعطاء صلاحيات سرية لجهة روسية للاطلاع على بيانات المستخدمين الروس المؤيدين لأوكرانيا، وبعد خروجه حصل على جنسية من جزيرة في البحر الكاريبي، ثم حصل على جنسية من فرنسا ثم من الإمارات، وأدار شركته التي يقع مقرها في ألمانيا.
وأتت له هذه النجاحات بثروة كبيرة، وقد قدرت مجلة فوربس ثروة دوروف بـ15.5 مليار دولار، وأصبح في قائمة أغنى أثرياء العالم.
الهروب من الفيس إلى تليغرام
حظي تليغرام بالاهتمام الواسع بعد ظهور معايير الفيس الصهيونية، ومقص الرقيب الذي يطارد الصفحات المؤيدة للحق الفلسطيني والرافضة للصهيونية، واتسعت حملة تجفيف الفيس من صفحات المشاهير والكتاب والمفكرين وأصحاب المحتوى الهادف في العالم العربي وفي الغرب، وزادت سياسة الإقصاء بضراوة منذ طوفان الأقصى حيث أغلقت الصفحات التي تنشر كلمات مثل: غزة وحماس وفلسطين، وحتى كلمة “شهيد” أصبحت ممنوعة، فتوقف النشر وتراجع الاهتمام بالفيس، فأصبح محتوى معظم الصفحات يدور حول العزاء والتهنئة وقليل من الموضوعات الخفيفة غير الجادة.
حتى تويتر رغم البداية القوية لمالكها الجديد إيلون ماسك، وما أظهره من صمود ضد الشركات الأمريكية الصهيونية التي حاولت ابتزازه وقطع الإعلانات عنه؛ فإن الضغوط الإسرائيلية والصهيونية بدأت تظهر فيما بعد في إغلاق صفحات حماس والمقاومة والفصائل الفلسطينية، وفي سياسة تحجيم الصفحات ذات المحتوى المؤيد للفلسطينيين والمعادي للصهيونية.
تسببت القيود على النشر في مواقع التواصل في هجرة الكثير من أصحاب العقول والقراء وجمهور المستخدمين إلى تليغرام، حيث يوفر التطبيق فضاء واسعا وإمكانات أفضل في النشر، والتواصل، وبث المحتوى بكل أنواعه، بدون قيود أو حد اقصى من الحروف أو المساحات، وأصبح التطبيق يتفوق على تويتر الذي يستخدمه 586 مليون مستخدم حيث قفز عدد مستخدمي تليغرام إلى 900 مليون شخص.
الاحتكار الأمريكي والسيطرة على عقولنا
تحتكر الشركات الأمريكية التأثير على الوعي والثقافة من خلال احتكار البرامج والتطبيقات على الجوالات والأجهزة اللوحية التي لا تفارق أيدي البشر، بالتحكم فيها عبر متجري غوغل وآبل، وحاولوا عبر نسخة معدلة من تليغرام أن يتدخلوا في التطبيق ويمكنهم حذف الصفحات التي لا تتوافق مع المعايير الصهيونية، ولهذا تنبه مستخدمو التطبيق فبدأوا يستخدمون النسخة الأصلية الموجودة على صفحة شركة تليغرام على الانترنت، وقرروا رفض تحديث التطبيق من الشركتين.
المعايير الصهيونية التي تحكم العقل الإحتكاري الأمريكي تستهدف بشكل أساسي الشعوب العربية والمسلمة وأنصار فلسطين، ويركز القائمون على القمع وتكميم الأفواه في الفضاء الإلكتروني على الجمهور العربي والمسلم، ويسعون دائما لنشر الجهل والتبعية بإغلاق أي منبر ينشر الوعي والثقافة المرتبطة بالثوابت الدينية والثقافية والحضارية، وهم يلجأون دائما إلى المصادرة والإغلاق من المنبع، تحت ذرائع معاداة السامية والإرهاب والجريمة وغيرها من المصطلحات التي دأبوا على ربطها بكل ما هو عربي ومسلم.
هذا النهج الاحتكاري هو الذي يجعل السلطات الأمريكية تطارد تطبيق تيك توك الصيني لأنه ينشر فيديوهات الحرب في غزة، والتي تفضح الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون على أيدي الاحتلال الإسرائيلي الذي يقصف المدنيين بلا رحمة، وهذا العقل الاحتكاري يقف خلف مطاردة شركة هواوي الصينية والتضييق عليها وخنقها لمنعها من التقدم على مثيلاتها الأمريكية في تكنولوجيا الجيل الخامس وتهديد التفوق الأمريكي.
مالم يقرر العرب كسر الاحتكار الإعلامي ويمتلكوا زمام المبادرة ( قناة الجزيرة نموذجا) وأن يكون لهم تطبيقات ومنصات مستقلة سيظلون ينتقلون من منصة لأخرى بحثا عن مساحة من الحرية، وسيتم إذلالهم وترويضهم بالمعايير المعيبة، وسنخسر الكثير من المحتوى الذي تنتجه عقولنا ويتم شطبه في لحظة بأيدي مجهولين في محاكم التفتيش المعاصرة.
الحقيقة أن الحرب على العقل العربي هي الأشد ضراوة، سواء على المفكرين ومنتجي الأفكار أوعلى جمهور المتلقين، وستظل المطاردة مستمرة لامتلاك عقولنا، ويكفينا دولة واحدة صاحبة قرار تقوم بالمهمة، وتقطع الطريق على الخفافيش التي تطارد الحرية وتعادي أصحاب الرأي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق