الاثنين، 26 أغسطس 2024

{لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون . بنصر الله}

 {لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون . بنصر الله}


قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً 
أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس


معركة مرج الصُّفَّر الأولى، وقعت أحداثها في 4 مُحرَّم عام 13هـ، وهي من أوائل معارك فتوح الشام، ودارت رحاها بين المسلمين بقيادة الصحابي خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه وجيش الروم بقيادة ماهان، وكان النصر فيها للروم، وكانت المعركة أول هزيمة للمسلمين في فتوحات الشام بل في الفتوحات عموماً، ومرج الصُّفر هو سهل يقع على بعد ثمانية عشر ميلاً عن دمشق على الطريق إلى درعا.

     وأما الظروف التي مهّدت لها فقد كان خالد بن سعيد أول قائد يعقد له الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لواء فتح الشام، وأمره بأن يعسكر بجيشه في تيماء شمال الحجاز ليكون ردءاً للمسلمين أي عوناً ومدداً لهم عند الضرورة، وليكون عيناً للخليفة أيضاً على تحركات الروم، لذا أوصاه ألاَّ يبدأهم بالقتال إلا إذا هم بدأوه.

     لما علم هرقل بتحرك جيش خالد رأى أن يضربه، فاستنفر العرب المُتنصرة مثل لخم وجُذام وغسَّان وغيرها، فتوافدوا إليه وعسكروا في مكانٍ قريبٍ بِقيادة ماهان الأرمني، فاصطدم بهم خالد وانتصر عليهم فتفرقوا عنه ومنهم من أسلم. 

وفرَّ ماهان مع من تبقّى من جُنوده من ساحة المعركة إلى دمشق. وكتب خالد إلى أبي بكر بأخبار النصر وطلب منهُ الإمدادات فاستجاب الخليفة لِطلبه وأمده بالوليد بن عقبة وعكرمة بن أبي جهل وجماعة رضي الله عنهم جميعاً وكان أبو بكر قد استبقاهم أصلاً في المدينة المنورة لمواجهة أي طارئ،

     لكن خالداً لم ينتظر المدد فاشتبك مع الروم بقواته القليلة، وزحف إلى مرج الصَّفر يريد دمشق لملاحقة ماهان، ولكنه لم يُراعِ الاستراتيجيات العسكرية الضرورية : 

فأولاً لم يرسل طلائعه لاستكشاف المنطقة ولرصد تحرُّكات العدوّ فيها، وهذا مكَّن القائد الرومي ماهان من مهاجمته على حين غرة منه، وثانياً لم يترك خلفه من يحمي ظهر الجيش، ففاجأه ماهان بالالتفاف حول جيشه وقطع خط الرجعة عليه، حدثت يومها مقتلة عظيمة في جيش المسلمين استشهد فيها كثير منهم، واستشهد ابنه سعيد رضي الله عنه، بينما لم يُقْتَل عدد يذكر من جيش الروم. غادر خالد أرض المعركة في كتيبة من أصحابه على ظهور الخيل والإبل، ولكن نجح عكرمة في سحب بقية الجيش إلى ذي مروة (تبعد 180 كم شمال المدينة المنورة)، ومكث الجميع هناك في انتظار أوامر الخليفة.

     ولما وصلت أنباء هذه الهزيمة النكراء إلى الخليفة أهمه الأمر وأحزنه، فجمع كبار الصحابة لتبادل المشورة، فكان الرأي دفع العدوان وردع الروم؛ وإلاَّ فقد يغرهم هذا النصر المفاجئ فيهددون أمن الدولة الإسلامية، وبالأخص بعد نجاحها في القضاء على فتنة الردة، وبعد توالي أنباء انتصاراتها المدوية التي تحققت في جبهة العراق.

كان الخليفة الصديق قد بعث أربعة جيوش عسكرية للشام: 

فقائد الجيش الأول أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ووجهته حمص وعدده 7 الاف مجاهد، وقائد الجيش الثاني يزيد بن ابي سفيان رضي الله عنهما ووجهته دمشق وعدده 9 الاف مجاهد، وقائد الجيش الثالث شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه ووجهته الشام وعدده 7 آلاف مجاهد، وقائد الجيش الرابع عمرو بن العاص رضي الله عنه ووجهته فلسطين وعدده 7 الاف مجاهد، وأمرهم أبو بكر بأن يعاونوا بعضهم، وإذا اجتمعوا معاً أن تكون القيادة العامة لأبي عبيدة بن الجراح، وأمر كل أمير أن يسلك طريقاً غير طريق الآخر لتحقيق مصلحة معينة، مقتدياً في ذلك بسيدنا يعقوب عليه السلام حين قال لبنيه { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } يوسف 67

     وقد نجحت تلك الجيوش بالتوغل في جنوب الشام، واشتبكت في مناوشات صغيرة مع الروم، فبدأ قيصر الروم هرقل يحشد ما يستطيع من جنود وعتاد حتى يدفع جيوش المسلمين، ولما رأى المسلمون ما يحشده الروم من جيوش ضخمة أرسلوا إلى أبي بكر يخبرونه بحالهم ويطلبون منه المدد فاستجاب لهم وأرسل إليهم الإمدادات من المدينة، غير أن جبهة القتال الشامية لم يحدث فيها أي تغيير يذكر على الرغم من ذلك.

     هال الخليفة تأخر النصر على قوات الروم التي كانت مزهوّة بانتصارها على الفرس وبعودة الثقة إليها بعد حربها معهم التي قال عز وجل فيها {الٓمٓ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ * فِي بِضۡعِ سِنِينَ * لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُ وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * بِنَصۡرِ ٱللَّه…} الروم 1-5، فقال أبو بكر [والله لَأُنْسِيَنَّ الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد] فكلَّف خالداً رضي الله عنه بالقدوم إلى الشام ومعه نصف قواته التي في العراق، وأمره أن يلتقي بأبي عبيدة ومن معه ويتسلم القيادة العامة للجيوش كلها، وفي الوقت ذاته كتب لأبي عبيدة يخبره بهذه التكليفات،

     امتثل خالد بن الوليد لأوامر الخليفة فخرج من الحيرة بالعراق في تسعة آلاف مقاتل وسار بهم حتى الْتقى أبا عبيدة بالجابيَّة، فمضيا بجيشيهما إلى بُصرى الشام، وهناك تجمعت الجيوش كلها تحت قيادة خالد بن الوليد، وتم فتح بصرى في 25 من شهر ربيع الأول سنة 13 هـ، ثم تجمعت الجيوش الإسلامية مرة أخرى في فلسطين فابتدأت أحداث معركة أجنادين الأولى في 27 من جمادى الأولى عام 13 هـ، وكانت النتيجة نصراً ساحقاً للمسلمين بقيادة خالد بن الوليد، فبعث إلى الخليفة يبشره بالنصر، ففرح أبو بكر وقال [الحمد لله الذي نصر المسلمين وأقَرَّ عيني بذلك]

     وبعد معركة أجنادين تلك بثلاثة أسابيع تقريباً حسب إحدى الروايات التاريخية كانت موقعة مرج الصُّفَّر الثانية في 17 من جمادى الآخرة عام 13 هـ، حيث توجهت الجيوش الرومية في 30 ألف مقاتل من حمص إلى مرج الصفر في طريقها إلى دمشق، وقد ارسلها القائد العام توماس صهر هرقل بهدف خوض معركة خارج مدينة دمشق المحاصرة وأيضاً بهدف طرد المسلمين بعيداً عنها، فإن لم تنجح فعليها تأخير تقدم المسلمين لكسب الوقت لتموين المدينة، ولكن خالداً بن الوليد الذي كان هو من يحاصر دمشق أصلاً علم من استخباراته بهذا الزحف، فقرر ألاَّ ينتظر حتى تأتيه جيوشهم أثناء حصاره لها، بل قرر من فوره أن يأخذ الجيوش الإسلامية من حول أسوار دمشق وأن يتوجه لاعتراض طريق تلك الجيوش الرومية قبل أن تصل دمشق، ومن باب فرض الأمر الواقع على الرومان الْتقى بهم في مرج الصفر على غير ترتيب منهم، ولذا فلم تكن جيوشهم هذه مستعدة لذلك اللقاء،

     رتب خالد جيشه على نحو ترتيبه في أجنادين مع اختلاف يسير: فقد وضع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص رضي الله عنه على ميسرة الجيش، وأبقي معاذاً بن جبل رضي الله عنه على ميمنته، وجعل على القلب أبا عبيدة وأوكل إليه قيادة المشاة، وجعل سعيداً بن زيد على القلب أيضاً وأوكل إليه قيادة الفرسان، وجعل النساء والأطفال خلف الجيش، وهؤلاء هم أسر وعائلات الجيش القادم مع خالد من العراق وكان المفترض إعادتهم إلى المدينة المنورة، أما خالد نفسه فقد بقي في مقدمة الجيش يتنقل في كل المواقع،

     بدأت المعركة بالمبارزة مثل معظم معارك المسلمين في ذاك الزمان، فأمر خالد عدداً من أبطال وقادة جيشه من بينهم ضرار وشرحبيل وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم لمبارزة الروم. وخرج لكل منهم قائد من الروم، وفي النتيجة قتل كل رومي خرج للمبارزة. وبعد أن مضى على هذه المبارزات ساعة تقريباً أوقفها خالد وتقدم هو يطلب المبارزة، فخرج له القائد الرومي كولوس، فكانت النتيجة سقوطه على الأرض فأسره خالد. وهنا تقدم لمبارزة خالد قائد آخر اسمه أدادير وقع هو الآخر في الأسر بعد مبارزة طويلة شديدة.

     غضب الروم لهذه البداية السيئة وأصابتهم حالة من الاستياء واليأس، تقدم القائد خالد حتى الصف الأول ليلقي خطبة الحرب على جنود جيشه ليذكرهم بعاقبة الثبات والجهاد وما أعد الله للمجاهدين والشهداء، ولكنه قبل أن يبدأ الكلام تفاجأ بهجوم شرس من جنود الروم على امتداد الجبهة كلها، إذ إنهم انقضوا على جيش المسلمين سريعاً في هجوم عنيف، فاهتزت صفوف المسلمين نتيجة هذا الهجوم الكاسح، وارتقى كثير من الرجال وسط الجيش،

     تواجه الجمعان في معركة صعبة اشتد فيها القتال وطالت بهم مدته حتى نهاية اليوم، وفي هذه الأجواء استطاع خالد بن سعيد أن يصمد أمام ذلك الاندفاع الروماني الشرس، ونازل الروم بصمود وشجاعة منقطع النظير، واستمات مع فرسانه في القتال، وكان من أشد المسلمين ضراوة في الجهاد، فكان يقف في فرسانه يثير حماستهم ويحضّهم على الاستبسال والقتال في سبيل الله، فجاهد يومها جهاداً عظيماً وأبلى بلاء حسناً، حتى قيل أنه استشهد في هذه المعركة،

     وشيئا فشيئاً بدأت صفوف المسلمين تتحرك تحت هذا الضغط الشديد، حتى أصبح القتال يدور على شاطئ نهر عليه طاحونة، وبسبب شدة القتال وازدياد عدد القتلى من الجانبين امتزجت الدماء بالمياه وطحنت بها الطاحونة، نادى خالد بن الوليد وقادته في الجنود وارتفعت أصواتهم يحثونهم على الإقدام والصبر والثبات في ميدان العزة والشرف، فانقلبت دفَّة المعركة بعد وقت قصير نتيجة اندفاع المسلمين الشرس واستماتتهم، وبدأ الروم يتراجعون نحو معسكرهم والمسلمون يزيدون الضربات عليهم ويلاحقونهم إلى معسكرهم، ودب الهَرَجُ والمَرَجُ والرعب في صفوفهم وبدأوا الهروب والفرار من أرض المعركة، فمن فلولهم من توجه نحو دمشق ومنهم من رجع إلى حمص ومنهم من فر نحو بيت المقدس،

     انتهى القتال في ساحة مرج الصفر، وأسفرت هذه المعركة عن انتصار ساحق للمسلمين ولكن الثمن كان باهظاً جداً فسلعة الله غالية، ارتقى منهم خمسمائة شهيد وجرح أربعة آلاف، وفي المقابل قتل خمسمائة فقط من الروم ووقع في الأسر مثلهم وهرب بقيتهم جرَّاء تلك الهزيمة.

     ومما يروى في هذه الموقعة أن الصحابية أم حكيم بنت الحارث بن هشام رضي الله عنها شاركت في قتال الروم يومها، فقتلت وحدها أربعة منهم بعمود الخيمة وعادت سالمة من غير أن تصاب بجرح، وقيل إنها قتلت سبعة.

     بعد انتهاء المعركة عاد المسلمون من جديد إلى مدينة دمشق وزادوا من الحصار عليها حتى تم لهم فتحها فيما بعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق